وأمَّا عِصْيَانُه فإنَّه يُؤَدِّي إلى
الاِبْتِعَادِ عَنْه جل وعلا، فَالتَّقَرُّبُ إلى اللهِ إنَّما يكونُ
بِالطَّاعَاتِ والابتعاد عَنْه جل وعلا يكونُ بِعَمَل الْمَعَاصِي.
وقولُه: «حَتَّى أُحِبَّهُ» فَكَمَا ذَكَرنَا فيه إثْبَاتُ صِفَةِ الْحُبِّ
لِلَّهِ جل وعلا، وأنَّه يُحِبُّ عَبْدَه الذي يَتَقَرَّبُ إلَيْه بِالْفَرَائِضِ
أولاً ثم بِالنَّوَافِل.
وقولُه: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ
الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ» ومعنى ذلك كما فَسَّرَه في آخَرِ الْحَدِيث بِقَوْلِه:
«وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ،
وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» فَآخِرُ الْحَدِيثِ يُفَسِّر
أَوَّلَه، وَالْمُرَادُ أن اللهَ جل وعلا يكون مَعَه مَعِيَّة خَاصَّة
فَيُسَدِّدُه في أَقْوَالِه وفي أَفْعَالِه؛ هذا معنى قوله: «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ...»إلَخ، وليس مَعْنَاه أنَّه
جل وعلا مَعَه مَعِيَّةٌ حِسِّيَّةٌ تَقْتَضِي الْمُخَالَطَة؛ أو يَخْتَلِطُ في
جِسْمِه كما تَقُولُه الحلولية والبهائية مِمَّا يُعتبَر من الْكُفْر
وَالإِْلْحَاد، وَلَكِن مَعْنَاه أنَّه سُبْحَانَه يكون مَعَه مَعِيَّة خَاصَّة
تَقْتَضِي التَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ وَالتَّسْدِيد في جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِه،
وهذا نَتِيجَةُ مَحَبَّةِ اللهِ له، وهذا كُلُّه حَاصِلٌ من التَّقَرُّبِ إلى اللهِ
جل وعلا بِالْفَرَائِض وَالنَّوَافِل؛ ففيه فَضْلُ التَّقَرُّبِ إلى اللهِ
بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل.
وقولُه: «وما تَرَدَّدَت عن شَيْء أَنَا فَاعِله تَرَدُّدِي عن قَبْضِ نَفْس عَبْدِي الْمُؤْمِن» الله جل وعلا يُحِبُّ ما يُحِبُّه عَبدُه الْمُؤْمِن، وَيُكْرَه ما يَكْرَهُه، فَالْمُؤْمِنُ يَكْرَه الْمَوْت، واللهُ جل وعلا يكْرَه له ذلك، ولكنه لا بدَّ منه؛ ولهذا قال: «وما تَرَدَّدَت» وَالتَّرَدُّدُ يكونُ بين شَيْئَيْن، وَلَكِنَّ اللهَ جل وعلا لا يَتَرَدَّد، وإنَّما مَعْنَاه كَرِهْت، وهو ما جَاء في آخَرِ الْحَدِيث، وَالْمُرَاد: ما كَرِهْتُ شيئًا أَشَدّ من قَبَضِ رُوحِ الْمُؤْمِن؛ لأنَّ الإِْنْسَانَ بطبيعتِه يَكْرَه الْمَوْت،
الصفحة 4 / 339