قبل قليل من الناس وصيته في الجد في طلب الآخرة
والاستعداد لها، فهذه الطائفة القليلة نجت ولحقت النبي صلى الله عليه وسلم في
الآخرة، حيث سلكت طريقته في الدنيا وقبلت وصيته، ففعلت ما أمر به. وأما أكثر الناس
فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها، فشغلهم ذلك عن الآخرة، حتى فاجأهم الموت
بغتة على غرة، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير.
ومن أبلغ الأمثلة
للحياة الدنيا: ما مثلها به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته
من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب
الناس فقال: «لاَ وَاللهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا يُخْرِجُ اللهُ
لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَ
يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟، فَصَمَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «سَاعَةً([1])، ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ
قُلْتَ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي
إِلاَّ بِالخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ ما يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ
يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضِرِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ
خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ، أَوْ بَالَتْ، ثُمَّ
اجْتَرَّتْ فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ فَمَنْ أَخَذ مَالاً بِحَقِّهِ بُورِك لَهُ
فِيهِ، وَمَنْ أَخَذ مَالاً بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي
يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ» ([2]).
فأخبر صلى الله عليه
وسلم: أنه إنما يخاف عليهم الدنيا، وسماها: زهرة، تشبيهًا بالزهر في طيب رائحته،
وحسن منظره، وقلة بقائه، وأن وراءه ثمرًا خيرًا وأبقى منه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ ما يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ يُلِمُّ» تحذير من الدنيا والانهماك في جمعها والمسرة بها، كالماشية التي يروقها نبت
([1]) زيادة من طبعة دار المعارف.