ثُمَّ قَالَ ابْنُ كثيرٍ: «وقَدْ ذَهَب طائفةٌ كثيرةٌ من العُلَماء أنَّ
هَذِهِ الآيَة مَحْمُولةٌ عَلَى أَهْل الكتَاب، ومَنْ دَخَل فِي دِينِهمْ قبلَ
النَّسخ والتَّبديل إِذَا بَذلُوا الجِزْيةَ، وَقَالَ آخَرُون: بَلْ هي مَنْسُوخةٌ
بآيَة القتَال، وأنَّهُ يَجبُ أن تُدْعى جَميعُ الأُمم إِلَى الدُّخُول فِي
الدِّين الحَنيف «دين الإِسْلاَم»، فإنْ أَبى أحدٌ منهُمُ الدُّخُولَ ولَمْ يَنْقد
لهُ، أو يَبْذُل الجزيةَ، قُوتِلَ حتَّى يقتلَ». انتَهَى المَقْصُودُ من كَلاَمه
رحمه الله.
وقَالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمن بْن سعدي رحمه الله عَلَى قوله تَعَالَى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي
ٱلدِّينِۖ﴾ [البقرة: 256]: «هَذَا بيانٌ لكَمَال هَذَا الدِّين الإِسْلاَميِّ،
وأنَّهُ لكَمَال براهينِهِ، واتِّضاح آياتِهِ، وكَوْنه هُو دينُ العَقْل والعِلْمِ
وَدين الفِطْرَة والحِكْمة، وَدين الصَّلاح والإصْلاَح، وَدين الحَقِّ والرُّشد،
فلكمالِهِ وَقَبُول الفِطْرَة لهُ لا يحتاجُ إِلَى الإكْرَاه عَلَيْه؛ لأنَّ
الإكرَاه إنَّما يَقعُ عَلَى مَا تَنفرُ عنهُ القُلُوبُ، ويَتَنافَى مَعَ
الحَقيقَة وَالحقِّ، أو لمَا تَخْفى براهينُهُ وآياتُهُ، وإلاَّ فمَنْ جاءهُ هَذَا
الدِّين، وردَّهُ ولم يَقْبلهُ، فإنَّهُ لعنادِهِ؛ فإنَّهُ قَدْ تَبيَّن الرُّشدُ
منَ الغَيِّ، فلَمْ يَبْقَ لأحدٍ عُذْرٌ ولا حُجَّةٌ إِذَا رَدَّهُ ولم يَقْبلهُ،
وَلاَ مُنافَاة بَيْن هَذَا المَعْنى، وبَيْن الآيَات الكَثيرَة المُوجبَة
للجهَاد؛ فَإنَّ اللَّهَ أمرَ بالقتَال ليَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للَّه، ولدَفْع
اعْتدَاء المُعْتدينَ عَلَى الدِّين، وأَجْمَع المُسْلمُون عَلَى أنَّ الجهادَ
مَاضٍ مع البرِّ والفَاجر، وَأنَّهُ منَ الفُرُوض المُستمرَّة الجهَاد القَوْليُّ
والفعليُّ». انْتهَى. فَتبيَّن أنَّهُ لَيْسَ مَعْنى قَوْله تَعَالَى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي
ٱلدِّينِۖ﴾ [البقرة: 256] تَرْك النَّاس عَلَى أدْيَانهم الكُفريَّة وَالشِّركيَّة
والإلحاديَّة، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانهُ خَلَق الخَلْق لعبادتِهِ وَحْده لا شَريكَ
لهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ومَنْ أَبى
أنْ يَعْبد اللَّه، فإنَّهُ يُقَاتلُ حتَّى يَكُون