الواجبِ كما فعل الصِّدِّيقُ الأكبرُ حينَ جاءَ بمالِه كلِّه،
ولم يكُنْ مع هذا يأخذُ من أحدٍ شيئًا.
وقال آخر: الظالمُ لنفسِه: الذي يصُومُ عن الطعامِ لا عن
الآثام، والمقتصدُ: الذي يصُوم عن الطعامِ والآثام، والسابقُ: الذى يصُوم عن كلِّ ما
لا يُقَرِّبُه إلى اللهِ تعالى، وأمثال ذلك، لم تكُن هذه الأقوالُ متنافيةً بل ذكر
نوعًا مما تناولتْه الآية.
الوجه الثالث: أنْ
يذكُرَ أحدُهم لنزولِ الآيةِ سببًا، ويَذْكُر الآخرُ سببًا آخرَ لا يُنافِي
الأوَّل ومِن المُمْكنِ نزولُها من أجْلِ السَّببين جميعًا أو نزولُها مرتين؛ مرةً
لهذا ومرةً لهذا، وأما ما صَحَّ عن السَّلفِ أنهم اختلفوا فيه اختلافَ تناقُضٍ
فهذا قليلٌ بالنسبةِ إلى ما لم يختلفوا فيه.
كما أنَّ تنازعَهم في بعضِ مسائلِ السُّنَّةِ كبعضِ مسائلِ
الصَّلاةِ والزكاةِ والصيامِ والحجِّ والفرائضِ والطلاقِ ونحوِ ذلك لا يَمنعُ أن
يكونَ أصلُ هذه السننِ مأخوذًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وجُملُها منقولةٌ
عنه بالتَّواتر.
وقد تبيَّنَ أنَّ اللهَ أنزلَ الكتابَ والحكمةَ وأمَرَ أزواجَ
نبيِّه صلى الله عليه وسلم أنْ يذكرْنَ ما يُتلى في بيوتِهن من آياتِ اللهِ
والحِكمة، وقد قال غيرُ واحدٍ من السَّلف: إنَّ الحكمةَ هي السُّنة، وقد قالَ صلى
الله عليه وسلم «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ
الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» ([1]) فما ثَبَتَ عنه من السُّنةِ فعلينا اتِّباعُه سواءٌ قيل:
إنه في القرآنِ ولم نفْهَمْه نحن، أو قيل: ليس في القرآن، كما أنَّ ما اتَّفقَ
عليه السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسانٍ فعلينا أن نتَّبعَهم فيه، سواءٌ
قيل: إنه منصوصٌ في السُّنةِ ولم يُبلِغْنا ذلك، أو قيل: إنه مما استنبَطُوه واستخرجوه
باجتهادِهم من الكتابِ والسُّنة.
***
([1])أخرجه: أبو داود رقم (4604)، وأحمد رقم (17174)، وابن حبان رقم (12).
الصفحة 4 / 458