وأمَّا المُقدِّمَة الرَّابِعَة: وهي قَولُهم: «الخَلْق الحَادِث يَفتَقِر إلى خَلْقٍ آخَرَ
ويَلزَم التَّسَلسُل»؛ فقد مَنَعهم من ذلك عامَّةُ مَن يَقُول بخَلْقٍ حَادِثٍ من
أَهلِ الحَديثِ والكَلامِ والفَلسَفَةِ والفِقهِ والتَّصَوُّف وغَيرِهم، كأبي
مُعاذٍ التُّومَنِيُّ وزُهَيرٍ الإِبَرِيِّ والهَاشِمِيَّة، والكَرَّامِيَّة
ودَاوُدَ بنِ عليٍّ الأَصبَهانِيِّ وأَصحابِهِ وأَهلِ الحَديثِ والسَّلَف الذين
ذَكَرهم البُخارِيُّ وغَيرِهِم، وقالوا: إذا خَلَق السَّمَوات والأَرضِ بخَلْقٍ
لَم يَلزَم أنْ يَحتَاجَ ذلك الخَلْقُ إلى خَلْقٍ آخَرَ، وَلكِنَّ ذَلِكَ الخَلْقَ
يَحصُل بقُدرَتِه ومَشيئَتِه، وإنْ كان ذلك الخَلْقُ حادثًا».
ثُمَّ أَجابَ الشَّيخُ رحمه الله عن المُقدِّمَةِ الخَامِسَة:
وهي قَولُهم: «إنَّ ذلك يُفضِي إلى التَّسَلسُل»؛ بأنَّ الحَيَّ لا يَكُون إلاَّ
فَعَّالاً كما قال البُخارِيُّ وذَكَره عن نُعَيمِ بنِ حَمَّادٍ، وعُثمانَ بنِ
سَعيدٍ وابْنِ خُزَيمَةَ وغَيرِهِم، ولا يَكُون إلاَّ مُتحَرِّكًا كما قال عُثمانُ
بنُ سَعيدٍ الدَّارِمِيُّ وغَيرُه، وكُلٌّ مِنهُما يَذكُر أنَّ ذلك مَذهَبَ أَهلِ
السُّنَّة، قَالُوا: وهذا تَسَلسُل في الآثَارِ، والبُرهَانُ إنَّما دلَّ على
امتِنَاعِ التَّسَلسُل في المُؤَثِّرين؛ فإنَّ هذا مِمَّا يُعلَم فَسادُه بصَريحِ
المَعقُول، وهو ممَّا اتَّفَق العُقَلاءُ على امتِناعِهِ.
فأمَّا كَونُه سبحانه وتعالى يتكلَّم كَلِماتٍ لا نِهايَةَ لها،
وهو يتكلَّم بمَشيئَتِه وقُدرَتِه فهذا هو الَّذي يدلُّ عَلَيهِ صَحيحُ المَنقولِ
وصَريحُ المَعقولِ، وهو مَذهَب سَلَف الأُمَّة وأَئِمَّتِها، والفَلاسِفَة تُوافِق
على دَوامِ هذا النَّوعِ، وقُدمَاءُ أَساطِينِهم يُوافِقُون على قِيامِ ذلك بذَاتِ
الله؛ كما يَقولُ أئِمَّةُ المُسلِمين وسَلَفُهم.
والَّذِين قَالُوا: إنَّ ذلك مُمتَنِع، هم أَهلُ الكَلامِ
المُحدَث في الإِسلاَمِ مِن الجَهمِيَّةِ والمُعتَزِلَةِ، ومِن هنا يَظهَر الأَصلُ
الذي تُبنَى عَلَيهِ أفعال