ولهذا لعن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عاصِرَ الخَمرِ
ومُعتَصِرَها ([1]) كما لعن شاربها، والعاصِرُ يَعصِر عِنَبًا يُمكِن أن
يُنتَفَع به المباح، لكن لمَّا عَلِم أنَّ قَصْدَ العاصِرِ أن يَجعَلَها خمرًا لم
يَكُن له أن يُعِينَه بما جِنسُه مباح على معصية، بل لعنه صلى الله عليه وسلم على
ذلك؛ لأن الله لم يُبِح إِعانةَ العاصي على معصيته، ولا أباح له ما يستعين به في
المعصية، فلا تكون مباحاتٍ لهم إلاَّ إذا استعانوا بها على الطاعات؛ فيَلزَم من
انتِفاءِ السَّيِّئات أنَّهم لا يفعلون إلاَّ الحسنات.
ولهذا مَن تَرَك المعاصِيَ كُلَّها فلا بُدَّ أن يَشتَغِل بطاعة
الله، وفي الحديث الصحيح: «كُلُّ النَّاسِ
يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُهَا» ([2])، فالمُؤمِن لا بُدَّ له أن يُحِبَّ الحَسَناتِ ولا بُدَّ
أن يُبغِض السَّيئات، ولا بُدَّ أن يَسُرَّه فِعْلُ الحَسَنة ويَسوءُه فِعْلُ
السيئة، ومتى قَدَّر أنَّه في بَعضِ الأُمورِ ليس كَذلِكَ كان ناقِصَ الإِيمَان، والمُؤمِن
قد تصدُرُ منه السَّيِّئة فيَتوبُ منها أو يأتي بحسنات تمحُوها، أو يُبتَلَى
ببلاءٍ يكفِّرُها عنه، ولكنْ لا بُدَّ أن يكون كارِهًا لها؛ فإنَّ الله أخبَرَ أنه
حبَّبَ إلى المؤمنين الإِيمَان، وكرَّه إليهم الكُفْرَ والفُسوق والعِصيانَ، فمَن
لم يَكرَهْ الثَّلاثَةَ لم يَكُن منهم.
ولكن مُحمَّد بن ناصِر يقول: الفاسق يَكرَهُها تديُّنًا.
فيُقال: إنْ أُرِيد بذلك أن يعتقد دِينَه حرَّمها وهو يُحِبُّ دِينَه، وهذه من جُملَتِه فهو يَكرَهُها؛ وإن كان يُحِبُّ دينه مُجمَلاً، وليس في قلبه كراهةٌ لها، كان قد عَدِمَ من الإِيمَان بقَدْر ذلك.
([1])أخرجه: أبو داود رقم (3674)، والترمذي رقم (1295)، وابن ماجه رقم (3381).
الصفحة 4 / 458