فإنَّ تقسيم الألفاظ إلى
حَقِيقَة ومَجازٍ إنَّما اشتَهَر في المِائَة الرَّابِعَة، وظَهَرت أَوائِلُه في
المِائَة الثَّالِثَة، وما عَلِمْتُه مَوجُودًا في المِائَة الثَّانِيَة،
اللَّهُمَّ إلاَّ أن يكون في أَواخِرِها.
والذين أَنكَروا أن يكون أحمد وغَيرُه نَطَقوا بذا التَّقسِيم قالوا:
إنَّ معنى قَولِ أحمد: مِن مَجازِ اللُّغَة؛ أي: ممَّا يَجُوز في اللُّغَة أن يقول
الواحِدُ العَظِيم الذي له أعوان: نحن فَعَلْنا كذا ونفعل كذا ونحو ذلك، قالوا:
ولم يُرِدْ أحمد بذلك أنَّ اللَّفظَ استُعمِل في غَيرِ ما وُضِع له.
وقد أنكر طائِفَة أن يكون في اللُّغَة مجازٌ لا في القرآن ولا
في غَيرِه كأبي إسحاق الإِسْفَرائِينيُّ.
وقال المُنازِعون له: النِّزاع معه لفظيٌّ؛ فإنَّه إذا سَلَّم
أنَّ في اللُّغَة لفظًا مُستعمَلاً في غير ما وُضِع له لا يدلُّ على معناه إلاَّ
بقَرينَةٍ فهذا هو المَجازُ وإن لم يُسَمِّه مجازًا.
فيقول من ينصره: إنَّ الذين قسَّموا اللَّفظَ حقيقةً ومجازًا؛
قالوا: الحَقِيقَة هو اللَّفظُ المُستَعمَل فيما وُضِع له، والمجاز هو اللَّفظُ
المُستعمَل في غير ما وُضِع له؛ كلَفْظِ الأَسَد والحِمَار إذا أُرِيد بهما
البَهِيمة أو أُرِيد بهما الشُّجاع والبَلِيد.
وهذا التَّقسيم والتَّحديد يَستَلزِم أن يكون اللَّفظُ قد وُضِع
أوَّلاً لمعنًى ثم بعد ذلك قد يُستَعمَل في مَوضُوعه، وقد يُستَعمَل في غَيرِ
مَوضُوعه؛ ولهذا كان المشهور عند أَهلِ التقسيم: أنَّ كلَّ مَجازٍ فلا بُدَّ له من
حقيقة وليس لكلِّ حقيقةٍ مجازٌ.
فاعتَرَض عَلَيهِم بَعضُ مُتَأخِّرِيهم وقال: اللَّفظُ المَوضُوع قبل الاستِعمال لا حقيقةٌ ولا مجازٌ، فإذا استُعمِل في غَيرِ مَوضُوعه فهو مجازٌ لا حقيقةٌ.