لكنَّه كان رجُلاً عادلاً،
لا يُظلَم أحدٌ عندَه، فهاجرُوا إليه وهم قِلَّة، رجالاً ونساءً، فآوَاهُم ودافَع
عنهم، وعاشُوا عندَه آمنين مُتمسِّكين بدينِهِم.
ولمَّا بلَغَهم أنَّ قريشًا أسْلَمت، فرِحُوا بذلك وعادُوا إلى مكَّة، ولمَّا
قربُوا منها وجدُوا أنَّ الخَبرَ ليس صَحيحًا، وأنَّ قريشًا ما زالتْ على كُفرِها،
فلم يدخلُوا مكَّةَ إلا بِأمَان.
فاشْتدَّ أذى قُريشٍ على المُسلمين، فأذِن لهم صلى الله عليه وسلم
بالهِجرةِ إلى الحبشةِ مرَّةً ثانية، حتَّى أنَّ هذه الهجرةَ سُمِّيت بالهجرةِ الثَّانية،
وكانَ ممَّن هاجَرَ الهِجْرتين عُثْمانُ بنُ عفَّان رضي الله عنه، ومعه رُقيَّةُ
ابنةُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فأرسَلَ المُشركون رَجُلين: عمرو بنَ العاص
رضي الله عنه قبلَ أن يُسْلِم، ومعَه رجلٌ آخَر، وأرسَلوا مَعَهما هدايا
للنَّجَاشِي، وطَلَبُوا منْه أنْ يرُدَّ المُهاجِرين الَّذين عندَه، فأبَى
النَّجَاشي أن يرُدَّهم، وردَّ الرَّسُولين خَائِبين.
ثمَّ توالَتِ الأحداثُ والمُضَايقات على من بَقِي في مكَّة، على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وعلَى مَن مَعه في مكَّة؛ فأذِن الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم لهم بالهجرةِ إلى المَدِينة. ولمَّا قَدِم ناسٌ مِن الأَوْسِ والخَزْرِج للحَجِّ، وكان من عادتِه صلى الله عليه وسلم أنَّ يَعرِضَ نفسَه على القبائلِ في منازلِها في مِنَى في الحَجِّ، فصَادَف أنْ جاءَ ووجدَ الأَوْسَ والخَزرجَ قريبًا من جَمرةِ العَقَبة، فدَعَاهم إلى الله، وتَلاَ عليهم القُرآن، فقالو: (هذا هو الرَّجُلُ الذي تَتَهدَّدُكم به اليَهود، تقول: ليُبعثَنَّ نبيٌ فنكونُ معَه فنُقاتِلكم، اسْبقوا إليه قبْلَهم)؛ فآمَنُوا بالرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وبَايَعُوه، وكانوا عَددًا قليلاً، ثمَّ ذَهَبوا إلى قَوْمِهم بعدَ الحَجِّ فدَعُوهم إلى الإِسلام؛ فأسلَمَ عددٌ كثير من الأوسِ والخَزْرج، ثمَّ عادُوا إلى الحَجِّ في السَّنةِ التي بعدَها أكثر ممَّا كانوا في السَّنةِ الأُولى، يزيدون عن سَبْعين، فبَايَعُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عندَ جمرةِ العقبةِ