وقالَ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ مُبَيِّنًا وَقتَ حُدوثِ هذا، ومَوقِفَ
الأئِمَّةِ مِنهُ وَمِن الَّذِي أَحدَثَهُ: اعلَمْ أَنَّهُ لَم يَكُنْ فِي
عُنفوانِ القُرونِ الثلاثةِ المُفضَّلَةِ، لا بالحجازِ ولا بالشّامِ، ولا باليَمنِ
ولا مِصْرَ، ولا المَغرِب ولا العِراق ولا خُراسان مِن أهْلِ الدِّينِ والصَّلاح
والزُّهدِ والعِبادَةِ مَنْ يَجتَمِعُ عَلَى مِثْلِ سَماعِ المُكاءِ
والتَّصْدِيَةِ، لا بِدُفٍّ ولا بكفٍّ، ولا بقضيبٍ، وإِنَّما أُحدِثَ هذا بعدَ
ذلكَ فِي أواخرِ المائةِ الثَّانِيةِ. فلَمَّا رآهُ الأئِمَّةُ أَنكَرُوهُ فقالَ:
الشَّافعِيُّ رضي الله عنه خَلَّفتُ بِبَغدادَ شيئًا أَحْدَثَتْهُ الزنادقةُ
يُسَمُّونَهُ «التَّغِبيرَ» يَصُدُّونَ به النَّاسَ عنِ القرآنِ، وقالَ يزيدُ بنُ
هارون: ما يُغَبَّرُ إلاَّ فاسِقٌ، ومَتَى كانَ التَّغْبِير؟ وَسُئِلَ الإمامُ
أحمدُ، فقالَ: أَكْرَهُهُ، هُو مُحدَثٌ، قيلَ: أَتَجلِسُ مَعهم؟ قال، لا. وكذلكَ
سائِرُ أَئِمَّةِ الدِّينِ كَرِهُوه، وأكابِرُ الشُّيُوخ الصَّالِحينَ لم يَحضُروهُ،
فلم يَحضُرْهُ إبراهيمُ بنُ أدهم ولا الفُضَيل بنُ عِياض، ولا مَعروف الكرخيُّ،
ولا أبو سليمانَ الدَّارَنِيُّ، ولا أحمدُ بن أبي الحواريُّ، ولا السريُّ
السقطيُّ، وأمثالُهم.
والَّذِينَ حَضَرُوهُ مِن الشُّيُوخ المَحمُودين تركُوه فِي آخِرِ أمْرِهِم، وأعيانُ المشايخِ عابوا أهلَهُ، كما فعلَ ذلك عبدُ القادر والشَّيْخُ أبو البيانِ، وغيرهما من المشايخِ، وما ذكرَهُ الشَّافعيُّ -يرْحَمَهُ اللَّه- من أَنَّهُ مِن إِحداثِ الزَّنادِقَةِ، كلامُ إمامٍ خبيرٍ بِأُصولِ الإسلامِ، فإن هذا السَّماع لم يُرَغِّبْ فيهِ، ويَدْعُ إليهِ فِي الأصل إلاَّ مَن هو مُتَّهَمٌ بالزَّندقَةِ، كابنِ الراونديِّ والفارابيِّ وابنِ سينا وأمثالهِم إِلَى أنْ قالَ: وأَمَّا الحنفاءُ أهلُ مِلَّةِ إبراهيمَ الخليلِ، الَّذِي جعله اللهُ إمامًا، وأهلُ دينِ الإسلامِ الَّذِي لا يَقبَلُ اللهُ مِن أحدٍ دِينًا غيْرَهُ، المُتَّبِعُونَ لشريعةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ محمد صلى الله عليه وسلم