حَقًّا، كما أَنَّهُم يُقِرُّونَ أنَّ للهِ أمْرًا ونهيًا، ووعدًا ووعيدًا،
وأن ذلك مُتناولٌ لهم إِلَى حينِ الموتِ، هذا إِنْ كانُوا مُتَمسِّكِينَ
باليَهُودِيَّةِ والنَّصرانِيَّةِ المُبدَّلةِ المَنسُوخةِ، وأَمَّا إِنْ كانُوا
مِن مُنافِقِي أهلِ مِلَّتِهِم -ما هو الغالب عَلَى مُتكلِّمِيهم ومُتَفلسِفِيهِم-
كانُوا شرًّا مِن مُنافِقِي هذه الأُمَّةِ؛ حيثُ كانُوا مُظهِرينَ للكُفْرِ
ومُبطِنِينَ للنِّفاقِ فَهُم شَرٌّ مِمَّن يُظهِرُ إِيمانًا، ويُبطِنُ نِفاقًا.
والمقصودُ أنَّ المُتمَسِّكِينَ بِجُملةٍ منسوخةٍ فيها تَبديلٌ خيرٌ مِن
هؤلاءِ الَّذِينَ يَزعُمونَ سُقوطَ الأمرِ والنَّهيِ عَنهُم بالكُلِّيَّةِ، فإنَّ
هؤلاءِ خارجونَ فِي هذه الحالِ مِن جَمِيعِ الكُتُبِ والشَّرائِعِ والمِلَلِ، لا
يَلتَزِمُونَ للهِ أمْرًا ولا نَهيًا بحالٍ، بل هؤلاءِ شرٌّ مِنَ المُشركِينَ
المُتَمَسِّكِينَ بِبقايا من المِلَل، كَمُشْرِكِي العربِ الَّذِينَ كانُوا
مُتمسِكينَ بِبَقايا مِن دِينِ إبراهيمَ عليه السلام ، فإنَّ أولئكَ معهم نوعٌ
مِنَ الحَقِّ يَلتزِمُونَهُ، وإنْ كانُوا معَ ذلك مُشركِينَ، وهؤلاء خارِجُونَ عن
التزامِ شيءٍ مِنَ الحَقِّ؛ بحيثُ يَظنُّونَ أَنَّهُم قد صَارُوا سُدًى لا أمْرَ
عليهِم ولا نَهْي.
إِلَى أنْ قالَ: ومِن هؤلاءِ مَن يَحَتجُّ بقولِه: {وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ} [الحجر: 99] وَيَقولُ: مَعناها اعبُدْ رَبَّكَ؛ حتَّى يَحصُلَ لكَ العِلْمُ والمعرفةُ، فإذا حَصلَ ذلك سَقطتِ العبادةُ، ورُبَّما قالَ بعضُهم: اعْمَلْ؛ حَتَّى يَحصُلَ لك حالٌ، فإذا حَصلَ لك حالٌ تَصَوُّفِيٌّ سقطَتْ عَنكَ العبادةُ، وهؤلاءِ فِيهِم مَن إذا ظَنَّ حُصولَ مَطلُوبِهِ مِنَ المَعرفةِ والحالِ استحَلَّ تَرْكَ الفرائضِ وارتكابَ المحارمِ، وهذا كُفْرٌ كما تقدَّمَ، إِلَى أنْ قالَ: فأَمَّا استِدلالُهُم بقولهِ -تَعالَى- : {وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ} [الحجر: 99] فهِيَ عليهِم لا لَهُم قالَ الحسنُ البصرِيُّ: «إنَّ اللهَ لم يَجعَلْ لِعَمَلِ المُؤمِنِ أَجَلاً دُونَ المَوْتِ» وَقَرأ قولَهُ: