وَلَنْ يَسْتَطيعَ البَشَرُ - مَهْمَا بَلَغُوا
مِنَ الحَضَارَة - إعْدَادَ هَذَا النِّظَام مُتَكَاملاً مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحي؛
لعَجْز مَدَارِكِهم، وَقُصُور أَفْهَامهم عَنِ الإحَاطَة بِمَا يُصْلحُهُم،
وَيُحَقِّقُ العَدَالَةَ بَيْنَهُم، هَذَا من نَاحيَة سيَاسَة البَشَر، وَكَذَلكَ
من نَاحيَة العِبَادَة، فَهُمْ يَجْهَلُونَ حَقيقَتَهَا، وَمَا يُصَحِّحُهَا
وَيُكْمِلُهَا أَو يُبْطِلُهَا وَيُنْقِصُهَا، فَلِذَلكَ كَانَ البَشَرُ بحَاجَةٍ
إلَى شَريعَةٍ شَامِلَةٍ لمَصَالِحِهم الدِّينيَّة وَالدُّنْيَويَّة.
فَاقْتَضَتْ
حكْمَةُ اللَّه وَرَحْمَته بِهِم إرْسَالَ الرُّسُل، وَإنْزَال الكُتُب؛ لتَحْقيق
مَصَالح العِبَادِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ
أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ
وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ﴾ [البقرة: 213].
وَقَالَ
تَعَالَى: ﴿لَقَدۡ
أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ
لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾
[الحديد: 25].
وَيَجْمُلُ بِنَا أَن نَنْقُلَ هُنَا جُمْلَةً من كَلاَم العَلاَّمَة ابْن القيِّم فِي هَذَا المَوْضُوع، قَالَ رحمه الله: «حَاجَةُ النَّاس إلَى الشَّريعَة ضَرُوريَّةٌ فَوْقَ حَاجَتهم إلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ نسْبَة لحَاجَتهم إلَى عِلْمِ الطِّبِّ إلَيْهَا، أَلاَ تَرَى أَنَّ أَكْثَرَ العَالَم يَعيشُونَ بغَيْر طَبِيبٍ، وَلاَ يَكُونُ الطَّبيبُ إلاَّ فِي بَعْض المُدُن الجَامعَة، وَأَمَّا أَهْلُ البَدْو كُلُّهم وَأَهْل الكُفُور كُلُّهُم، وَعَامَّة بَنِي آدَمَ، فَلاَ يَحْتَاجُونَ إلَى طَبِيبٍ، وَهُمْ أَصَحُّ أَبْدَانًا، وَأَقْوَى طَبيعَةً مِمَّنْ هُوَ مُتَقَيِّدٌ بِالطَّبِيبِ، وَلَعَلَّ أَعْمَارَهُم مُتَقَاربَةٌ، وَقَد فَطَرَ اللَّهُ بَنِي آدَمَ عَلَى تَنَاوُل مَا يَنْفَعُهُم، وَاجْتنَاب مَا يَضُرُّهُم، وَجَعَل لكُلِّ قَوْمٍ عَادَةً وَعُرْفًا فِي اسْتِخْرَاجِ مَا يَهْجُمُ عَلَيْهم مِنَ الأَدْوَاء، حَتَّى إنَّ كَثيرًا مِنْ أُصُول الطِّبِّ إنَّمَا أُخِذَتْ من عَوَائِدِ النَّاسِ وَعُرْفِهِم وَتَجَاربِهِم، وَأَمَّا الشَّريعَةُ فَمَبْنَاهَا