قَالَ: وَعَلَى هَذَا كَانَ أَوَائلُ القَوْم،
فَلَبَّسَ إبْليسُ عَلَيْهم فِي أَشْيَاءَ، ثُمَّ لَبَّسَ عَلَى مَنْ بَعْدهُمْ
مِن تَابِعِيهم، فَكُلَّمَا مَضَى قَرْنٌ، زَادَ طَمَعُهُ فِي القَرْن الثَّانِي،
فَزَادَ تَلْبيسُهُ عَلَيْهِمْ إلَى أَنْ تَمَكَّنَ مِنَ المُتَأَخِّرينَ غَايَةَ
التَّمَكُّن، وَكَانَ أَصْلُ تَلْبيسِهِ عَلَيْهم أَنْ صَدَّهُم عَنِ العِلْمِ،
وَأَرَاهُمْ أَنَّ المَقْصُودَ العَمَلُ، فَلَمَّا أَطْفَأَ مِصْبَاحَ العِلْمِ
عنْدَهُم، تَخَبَّطُوا فِي الظُّلُمَات، فَمِنْهُم مَنْ أَرَاهُ أَنَّ المَقْصُودَ
من ذَلكَ تَرْكُ الدُّنْيَا فِي الجُمْلَة، فَرَفَضُوا مَا يُصْلِحُ أَبْدَانَهُم،
وَشَبَّهُوا المَالَ بالعَقَارب، وَنَسَوْا أَنَّهُ خُلِقَ للْمَصَالح،
وَبَالَغُوا فِي الحَمْل عَلَى النُّفُوس حَتَّى إنَّ فِيهِم مَنْ لاَ يَضْطَجعُ،
وَهَؤُلاَء كَانَت مَقَاصدُهُم حَسَنَةً غَيْرَ أَنَّهُم عَلَى غَيْر الجَادَّة،
وَفِيهِم مَنْ كَانَ لقلَّة عِلْمِهِ يَعْمَلُ بمَا يَقَعُ إلَيْه مِنَ
الأَحَاديثِ المَوْضُوعَة وَهُوَ لاَ يَدْري، ثُمَّ جَاءَ أَقْوَامٌ فَتَكَلَّمُوا
لَهُمْ فِي الجُوع وَالفَقْر وَالوَسَاوس وَالخَطَرَات، وَصَنَّفُوا فِي ذَلكَ،
مِثْلَ الحَارِثِ المُحَاسَبيِّ، وَجَاءَ آخَرُونَ فَهَذَّبُوا مَذْهَبَ
الصُّوفيَّة، وَأَفْرَدُوهُ بصِفَاتٍ مَيَّزُوهُ بِهَا مِنَ الاخْتصَاص
بالمُرَقَّعَة، وَالسَّمَاع وَالوَجْد وَالرَّقْص وَالتَّصْفيق، ثُمَّ مَا زَالَ
الأَمْرُ يَنْمُو، وَالأَشْيَاخُ يَضَعُونَ لَهُمْ أَوْضَاعًا، وَيَتَكَلَّمُونَ
بمُوَاقَعَاتهم، وَبَعُدُوا عَن العُلَمَاء، وَرَأَوْا مَا هُمْ فيه أَوْفَى
العُلُوم حَتَّى سَمَّوْه العِلْمَ البَاطنَ، وَجَعَلُوا عِلْمَ الشَّريعَة
العِلْمَ الظَّاهرَ، وَمنْهُم مَنْ خَرَجَ به الجُوعُ إلَى الخَيَالاَت الفَاسدَة،
فَادَّعَى عِشْقَ الحَقِّ وَالهَيَمَان فيه، فَكَأَنَّهُم تَخَايلوا شَخْصًا
مُسْتَحْسَنَ الصُّورَة، فَهَامُوا بِهِ، وَهَؤُلاَء بَيْنَ الكُفْر وَالبِدْعَةِ،
ثُمَّ تَشَعَّبَت بأَقْوَامٍ مِنْهُم الطُّرُقُ، فَفَسَدَتْ عَقَائدُهُم، فَمِنْ
هَؤُلاَءِ مَنْ قَالَ بالحُلُول، وَمنْهُم مَنْ قَالَ بالاتِّحَاد، وَمَا زَالَ
إِبْلِيسُ يَخْبطُهُم بفُنُون البِدَعِ حَتَّى جَعَلُوا لأَنْفُسهم سُنَنًا.
انْتَهَى.