×
محاضرات في العقيدة والدعوة الجزء الأول

وَسُئلَ شَيْخُ الإسْلاَم ابْنُ تَيْميَة عَن قَوْمٍ دَاوَمُوا عَلَى الرِّيَاضَة مَرَّةً، فَرَأَوْا أَنَّهُم قَدْ تَجَوْهَروا فَقَالُوا: لاَ نُبَالي الآنَ مَا عَلِمْنَا، وَإنَّمَا الأَوَامرُ وَالنَّوَاهِي رُسُومُ العَوامِّ، وَلَو تَجَوْهَرُوا لَسَقَطَت عَنْهُم، وَحَاصِلُ النُّبُوَّة يَرْجعُ إلَى الحِكْمَةِ وَالمَصْلَحَةِ، وَالمُرَادُ مِنْهَا ضَبْطُ العَوَامِّ، وَلَسْنَا نَحْنُ مِنَ العَوَامِّ، فَنَدْخُلُ فِي حِجْرِ التَّكْليف؛ لأَنَّا قَدْ تَجَوْهَرنَا وَعَرَفْنَا الحِكْمَةَ.

فَأَجَابَ: لاَ رَيْبَ عنْدَ أَهْل العِلْمِ وَالإيمَان أَنَّ هَذَا القَوْلَ مِنْ أَعْظَم الكُفْر وَأَغْلَظِهِ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ قَوْل اليَهُود وَالنَّصَارَى؛ فَإنَّ اليَهُوديَّ وَالنَّصْرَانيَّ آمَنَ ببَعْض الكِتَابِ وَكَفَر ببَعْضٍ، وَأُولَئكَ هُمُ الكَافرُونَ حَقًّا، كَمَا أَنَّهُم يُقرُّونَ أَنَّ للَّه أَمْرًا وَنَهْيًا، وَوَعْدًا وَوَعيدًا، وَأَنَّ ذَلكَ مُتَنَاولٌ لَهُم إلَى حِينِ المَوْتِ، هَذَا إنْ كَانُوا مُتَمَسِّكينَ باليَهُوديَّة وَالنَّصْرَانيَّة المُبَدَّلَة المَنْسُوخَة.

وَأَمَّا إِنْ كَانُوا مِنْ مُنَافِقِي أَهْل مِلَّتِهِمْ، كَمَا هُوَ الغَالبُ عَلَى مُتَكَلِّمِيهم وَمُتَفَلْسِفَتِهِمْ، كَانُوا شَرًّا مِنْ مُنَافِقِي هَذِهِ الأُمَّة، حَيْثُ كَانُوا مُظْهِرِينَ للكُفْر، وَمُبْطِنِينَ للنِّفَاق، فَهُمْ شَرٌّ مِمَّن يُظْهِرُ إيمَانًا، وَيُبْطِنُ نِفَاقًا.

وَالمَقْصُودُ أَنَّ المُتَمَسِّكينَ بجُمْلَةٍ مَنْسُوخَةٍ فيهَا تَبْديلٌ خَيْرٌ من هَؤُلاَء الَّذينَ يَزْعُمُونَ سُقُوطَ الأَمْر وَالنَّهْي عَنْهُم بالكُلِّيَّة؛ فَإنَّ هَؤُلاَء خَارجُونَ فِي هَذِهِ الحَال من جَميع الكُتُب وَالشَّرَائع وَالمِلَلِ، وَلاَ يَلْتَزمُونَ للَّه أَمْرًا، وَلاَ نَهْيًا بحَالٍ، بَل هَؤُلاَء شَرٌّ منَ المُشْركينَ المُتَمَسِّكينَ ببَقَايَا المِلَلِ، كَمُشْرِكِي العَرَب الَّذينَ كَانُوا مُتَمَسِّكينَ ببَقَايَا مِنْ دِينِ إبْرَاهيمَ عليه السلام؛ فَإنَّ أُولَئكَ مَعَهُمْ نَوْعٌ مِنَ الحَقِّ يَلْتَزمُونَهُ، وَإنْ كَانُوا مَعَ ذَلكَ مُشْرِكِينَ، وَهَؤُلاَء خَارجُونَ عَن الْتِزَامِ شَيْءٍ منَ الحَقِّ بحَيْثُ يَظُنُّونَ


الشرح