×
محاضرات في العقيدة والدعوة الجزء الثالث

وقد تَنَاقَضَ أَهْلُ الجاهليَّة في هذا الباب؛ فَتَارَةً يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ لم يحرِّمها الله، ولا رَسُولُه، كما ذَكَرَ اللهُ أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ بَعضَ بهيمة الأنعام، أو يُحَرِّمُون بعض الزُّروع وَيَجْعلُونَهَا لأصنامهم، فهذا تَحْرِيمُ ما لم يُحَرِّمْهُ الله عز وجل.

وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَ المَيْتَةَ واسْتَحَلَّ الحَرَامَ؛ فَهُمْ علَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ؛ مُفَرِّطٍ، وَمُفَرَّطٍ فِي أَمْرِ الحلال والحرام؛ لأنَّهم يَبْنُونَ أَحْكَامَهُم على الحكم الجَاهِلِيِّ، لا على حكم الله ورسوله.

وكذلك الحكم على أصحاب الكبائر من المؤمنين؛ فَهُنَاكَ طَرَفا نَقِيضٍ، وَهُنَاكَ وَسَطٌ وَاعتِدَالٌ وَاسْتِقَامَةٌ فِي هَذَا الأَمْرِ؛ فَالخَوَارِجُ حَكَمُوا على مُرْتَكِبِ الكَبِيرَةِ بأنَّه كَافِرٌ، وأنَّه إذا مات مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ يَكُونُ مُخَلَّدًا في النَّار؛ لأنَّهم حَكَمُوا بِكُفْرِهِ حُكْمًا مِنْ عنْدِ أَنْفُسِهِمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ، وإنَّما حَمَلَهُمْ علَى ذَلِكَ التَّشَدُّدُ والطُّغْيَانُ والغُلُوُّ.

والطَّرف الثَّاني المُنَاقِضُ: مَنْ يَرَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الإِيمَانِ، وأنَّه لا يَضُرُّ مَع الإيمان مَعصِيَةٌ، كَمَا لا يَنْفَع مَع الكُفْرِ طَاعةٌ، وهؤلاء هم المسمَّون المُرْجِئَةَ؛ علَى طَرَفِ نَقِيضٍ مَع الخوارج والمعتزلة؛ فالمُعتَزِلَةُ انْضَمُّوا إلى الخوارج مِنْ نَاحِيَةٍ، وَخَالَفُوهُم مِنْ نَاحِيَةٍ؛ قالوا: إنَّ مُرْتَكِبَ الكبيرة خَارِجٌ مِنَ الإيمان، لكنَّه غَيْرُ دَاخِلٍ في الكُفْرِ؛ فَهُوَ فِي المَنْزِلَةِ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ، وإن مات، ولم يَتُبْ فإنَّه كما يقول الخوارج: مُخَلَّدٌ في النَّار.

يُقَابِلُهُمُ المُرْجِئَةُ الَّذين تساهلوا وفرَّطوا في الحكم حتَّى زَعمُوا أنَّ المعاصي لا تُنْقِصُ الإيمان، وأنَّ النَّاسَ في الإيمان سَوَاءٌ، بل قال قائلُهم: لا يَضُرُّ مَع الإيمان مَعصِيَةٌ.


الشرح