×
محاضرات في العقيدة والدعوة الجزء الثالث

يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ الإيمان، كَمَا قَالَ تَعالَى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ [النساء: 48] فالمُؤْمِنُ السَّالِمُ مِنَ الشِّرْكِ والكُفْرِ إذا فَعلَ كَبِيرَةً مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، فَهُوَ تَحْتَ المَشِيئَةِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ غَفَرَ لَهُ؛ خِلافًا لِلوَعيدِيَّةِ الَّذين يَقُولُون: إنَّ الله لا يَغْفِرُ لَهُ.

وقوله: ﴿شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ [غافر: 3] رَدٌّ علَى المُرْجِئَةِ؛ لأنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ مُعرَّضٌ لِلعقُوبَةِ، لَكِنْ إِنْ شَاءَ اللهُ عاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِذَا عاقَبَهُ فَإِنَّهُ لا يُخَلِّدُهُ في النَّارِ؛ لأنَّه لا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ إِلاَّ الكَافِرُ، أمَّا المؤمن فإنَّه إن دَخَلَ النَّارَ بِذُنُوبِهِ، فإنَّه يَخْرُجُ مِنْهَا، ولا يُخَلَّدُ فِيهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ جل وعلا يوم القيامة يَقُولُ: «أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» ([1]).

فالمُؤْمِنُ الَّذي يَرْتَكِبُ الكَبِيرَةَ مُعرَّضٌ للعقوبة، وإن شاء الله غَفَرَ له، ولم يُعاقِبْهُ، وإن شَاءَ عاقَبَهُ، ولكنَّه لا يُخَلَّدُ في النَّار، بل هو مَوْعودٌ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّار، ولا يُخَلَّدُ فِيهَا إِلاَّ أَهْلُ الكُفْرِ. هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجماعة الوَسَطُ فِي أنَّ مرتكبي الكبائر من المؤمنين، أنَّهم لا يَكْفُرُون، خِلافًا للخَوَارِجِ، وَأَنَّهُمْ عُرْضَةٌ لِلعقَابِ، خلافًا للمُرْجِئَةِ.

فَهُمْ جَمَعوا بَيْنَ النُّصُوصِ، وَعمِلُوا بِهَا كلِّها، فَبِذَلِكَ صَارُوا وَسَطًا في هذا البَابِ بَيْنَ الوَعيدِيَّةِ وَبَيْنَ المُرْجِئَةِ، وكذلك أَهْلُ السُّنَّة والجَمَاعةِ وَسَطٌ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الخَوَارِجِ وَبَيْنَ الرَّافِضَةِ والشِّيعةِ.

فَالخَوَارِجُ كفَّروا كثيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِنَاءً علَى مَذْهَبِهِمُ الفَاسِدِ فِي نُصُوصِ الوَعيدِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم هُمْ أَفْضَلُ الأمَّة، وإذا صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ خَطَأٌ، فإنَّهم أَقْرَبُ إِلَى مَغْفِرَةِ اللهِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ العصَاةِ؛


الشرح

([1])  أخرجه: البخاري رقم (22).