«الْكَذِبُ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ،
وَالْفُجُور يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَلاَ يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ
وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» ([1])،
فالكَذِبُ مُحَرَّمٌ، وكَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، ولَكِنَّ اللَّهَ تعالى
أَبَاحَهُ من أَجْلِ الإِصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ
النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا» ([2])،
وفي الحَدِيثِ الآخَرِ: «لَمْ يُرَخِّصِ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَذِبِ: إلاَّ الْكَذِبَ لِلإِْصْلاَحِ
بَيْنَ النَّاسِ,وكَذِب أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الآْخَرِ,وَالْكَذِبُ فِي
الْحَرْبِ» ([3])؛
لأَِنَّ الحَرْبَ خُدْعَةٌ، فَفِي هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاَثَةِ يَجُوزُ الكَذِبُ
من أَجْلِ المَصْلَحَةِ، ومَصْلَحَةُ الكَذِبِ في هَذِهِ الأَحْوَالِ رَاجِحَةٌ
عَلَى مَفْسَدَتِهِ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ مُفْسدَةٌ في هَذِهِ الأَحْوَالِ؛ لِذَلِكَ
أَبَاحَ اللَّهُ تعالى الكَذِبَ من أَجْلِ الإِصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ، لَكِنْ
مَا صُورَةُ ذَلِكَ؟
صُورَةُ ذَلِكَ: أَنْ تَذْهَبَ إِلَى أَحَدِ المُتَنَازِعَيْن وتَقُولَ لَهُ: فُلاَنٌ يُثْنِي عَلَيْكَ، أو فُلاَنٌ يُحِبّك ويُرِيدُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِكَ، فُلاَنٌ وصَّانِي أَنْ أَقُولَ لَكَ: إِنَّهُ يَرْغَبُ في الإِصْلاَحِ بَيْنَكُمَا، وهُوَ مَا قَالَ لَكَ ذَلِكَ، ولَكِنْ أَنْتَ تُرِيدُ الإِصْلاَحَ بَيْنَهُمَا، فَتُلَيِّنُ قَلْبَهُ، وتُحَبِّبُ إِلَيْهِ أَخَاهُ، ثُمَّ تَذْهَبُ إِلَى الآخَرِ وتَقُولُ لَهُ مِثْلَ مَا قُلْتَ لِلأَوَّلِ؛ حَتَّى يَذْهَبَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ النِّزَاعِ، ويَذُوبَ مَا في نُفُوسِهِمَا مِنَ العَدَاءِ، وتَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وتُصْلِحَ مَا أَفْسَدَهُ النِّزَاعُ، فالكَذِبُ هُنَا أَدَّى إِلَى مَصْلَحَةٍ؛ ولِذَلِكَ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ؛ لأَِنَّ الَّذِي يَكْذِبُ هُنَا لا يُرِيدُ إلاَّ المَصْلَحَةَ بَيْنَ النَّاسِ، فَهُوَ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ.
([1]) أخرجه: مسلم رقم (2607).