فِيهِ مَرَّة بَعْدَ كِتَابَتِهِ إِيَّاهُ،
ثُمَّ كَتَبَ عِدَّةَ أَسَانِيدَ تَحْتَهَا فَنَظَرَ فِيهَا كَمَا فَعَلَ أَوَّلَ
مَرَّةٍ فَحفِظَهَا، فَقَامَ الشَّيْخُ وهُوَ يَقُولُ: إِنْ عَاشَ هَذَا
الصَّبِيِّ لِيكُونن لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ هَذَا لَم يُرَ مَثَلُهُ
فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وأَمَّا
سُرْعَتُهُ في الكِتَابَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا عَنْهُ الشَّيْءَ العَجِيبَ وأَنَّهُ
كَانَ يَكْتُبُ من حِفْظِهِ من غَيْرِ نَقْلٍ وذَكَرُوا أَنَّهُ كَتَبَ مُجَلَّدًا
لَطِيفًا في يَوْمٍ، وكَتَبَ غَيْرَ مَرَّةٍ الأَرْبَعِينَ ورَقَةً في جَلْسَةٍ،
ومِنْ عَجَائِبِ حِفْظِهِ أَنَّهُ لَمَّا سُجِنَ صَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً
وذَكَرَ فِيهَا الأَحَادِيثَ والآثَارَ وأَقْوَالَ العُلَمَاءِ وأَسْمَاءَ
المُحَدِّثِينَ والمُؤَلِّفِينَ ومُؤَلَّفَاتِهِم وعَزَا كُلَّ شَيْءٍ من ذَلِكَ
إِلَى نَاقِلِيهِ وقَائِلِيهِ بِأَسْمَائِهِم، وذُكِرَتْ فِيهَا تِلْكَ النُّقُولُ
والأَقْوَالُ ومَوَاضِعُهَا مِنْهَا، كُلُ ذَلِكَ من حِفْظِهِ.
·
عَصْرُهُ
ومَا فِيهِ مِنَ الفِتَنِ وغُرْبَةِ الدِّينِ:
ظَهَرَ
شَيْخُ الإِسْلاَمِ في عَصْرٍ قَدِ اشْتَدَّتْ فِيهِ غُرْبَةُ الإِسْلاَمِ
وتَفَرَّقَتْ كَلِمَةُ المُسْلِمِينَ وظَهَرَتْ الفِرَقُ المُخَالِفَةُ لِمَا
كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ في العَقَائِدِ والفُرُوعِ وخَيَّمَ
الجُمُودُ الفِكْرِيُّ والتَّقْلِيدُ الأَعْمَى فَأَثَّرَ في الجَوِّ العِلْمِيِّ،
وظَهَرَ تْفِرَقُ الشِّيعَةِ والصُّوفِيَّةِ المُنْحَرِفَةِ والقبورية ونُفَاة
الصِّفَاتِ والقَدَرِيَّةِ وطَغَى عِلْمُ الكَلاَمِ والفَلْسَفَةِ حَتَّى حَلاَّ
مَحَلَّ الكِتَابِ والسُّنَّةِ لَدَى الأَكْثَرِ مِنَ المُتَعَلِّمِينَ في
الاسْتِدْلاَلِ، هَذَا كُلّهُ في دَاخِلِ المُجْتَمَعِ الإِسْلاَمِيِّ في ذَلِكَ
العَصْرِ، ومِنْ خَارِجِ المُجْتَمَعِ تَكَالُبَ أَعْدَاءُ الإِسْلاَمِ فَغَزَوُا
المُسْلِمِينَ في عُقْرِ دَارِهِم فَجَاءَتْ جُيُوشُ التَّتَارِ تُدَاهِمُ
المُسْلِمِينَ وتَفْتِكُ بِهِم، وفي هَذَا الجَوِّ المُعْتِمِ عَاشَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ
ابْنُ تِيمِية ضِيَاءً لاَمِعًا بِعِلْمِهِ الأَصِيلِ الغَزِيرِ يُدَرِّسُ
الطُّلاَّبَ ويُؤَلِّفُ الكُتُبَ والرَّسَائِلَ ويُفْتِي في النَّوَازِلِ
والمَسَائِلِ، ويُنَاظِرُ المُنْحَرِفِينَ، ويَرُدُّ عَلَى المُخَرِّفِينَ