فَصْلُ
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ
الْمُقَدِّمَةَ، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ حُبُّ الْمَحْبُوبِ
الأَْعْلَى وَعِشْقُ الصُّوَرِ أَبَدًا، بَلْ هُمَا ضِدَّانِ لاَ يَتَلاَقَيَانِ،
بَلْ لاَ بُدَّ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَمَنْ كَانَتْ قُوَّةُ حُبِّهِ
كُلُّهَا لِلْمَحْبُوبِ الأَْعْلَى الَّذِي مَحَبَّةُ مَا سِوَاهُ بَاطِلَةٌ
وَعَذَابٌ عَلَى صَاحِبِهَا صَرَفَهُ ذَلِكَ عَنْمَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ
أَحَبَّهُ لَمْ يُحِبَّهُ إِلاَّ لأَِجْلِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى
مَحَبَّتِهِ، أَوْ قَاطِعًا لَهُ عَمَّا يُضَادُّ مَحَبَّتَهُ وَيُنْقِصُهَا.
وَالْمَحَبَّةُ الصَّادِقَةُ
تَقْتَضِي تَوْحِيدَ الْمَحْبُوبِ، وَأَنْ لاَ يُشْرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
غَيْرِهِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ مِنَ الْخَلْقِ يَأْنَفُ
وَيَغَارُ أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ مَحَبَّةُ غَيْرِهِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَيَمْقُتُهُ
لِذَلِكَ، وَيُبْعِدُهُ لاَ يُحْظِيهِ بِقُرْبِهِ، وَيَعُدُّهُ كَاذِبًا فِي
دَعْوَى مَحَبَّتِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِصَرْفِ كُلِّ قُوَّةِ
الْمَحَبَّةِ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ بِالْحَبِيبِ الأَْعْلَى الَّذِي لاَ تَنْبَغِي
الْمَحَبَّةُ إِلاَّ لَهُ وَحْدَهُ، وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لِغَيْرِهِ فَهِيَ عَذَابٌ
عَلَى صَاحِبِهَا وَوَبَالٌ؟! وَلِهَذَا لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.
فَمَحَبَّةُ الصُّوَرِ تُفَوِّتُ
مَحَبَّةَ مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْعَبْدِ، بَلْ تُفَوِّتُ مَحَبَّةَ مَا لَيْسَ
لَهُ صَلاَحٌ وَلاَ نَعِيمٌ وَلاَ حَيَاةٌ نَافِعَةٌ إِلاَّ بِمَحَبَّتِهِ
وَحْدَهُ، فَلْيَخْتَرْ إِحْدَى الْمَحَبَّتَيْنِ، فَإِنَّهُمَا لاَ يَجْتَمِعَانِ
فِي الْقَلْبِ وَلاَ يَرْتَفِعَانِ مِنْهُ، بَلْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ مَحَبَّةِ
اللَّهِ وَذِكْرِهِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، ابْتَلاَهُ بِمَحَبَّةِ
غَيْرِهِ؛ فَيُعَذِّبُهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْبَرْزَخِ وَفِي
الآْخِرَةِ.
فَإِمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُ بِمَحَبَّةِ الأَْوْثَانِ، أَوْ بِمَحَبَّةِ الصُّلْبَانِ، أَوْ بِمَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ، أَوْ بِمَحَبَّةِ النِّسْوَانِ، أَوْ بِمَحَبَّةِ الْعُشَرَاءِ وَالإِْخْوَانِ،
الصفحة 1 / 375