فَصْلٌ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
الْعَبْدَ لاَ يَتْرُكُ مَا يُحِبُّهُ وَيَهْوَاهُ، وَلَكِنْ يَتْرُكُ
أَضْعَفَهُمَا مَحَبَّةً لأَِقْوَاهُمَا مَحَبَّةً، كَمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا
يَكْرَهُهُ؛ لِحُصُولِ مَا مَحَبَّتُهُ أَقْوَى عِنْدَهُ مِنْ كَرَاهَةِ مَا
يَفْعَلُهُ، أَوْ لِخَلاَصِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ كراهته عنده أقوى من كراهة ما يفعله.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ
خَاصِّيَّةَ الْعَقْلِ إِيثَارُ أَعْلَى الْمَحْبُوبَيْنِ عَلَى أَدْنَاهُمَا،
وَأَيْسَرِ الْمَكْرُوهَيْنِ عَلَى أَقْوَاهُمَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ
كَمَالِ قُوَّةِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ.
وَلاَ يَتِمُّ لَهُ هَذَا
إِلاَّ بِأَمْرَيْنِ: قُوَّةِ الإِْدْرَاكِ، وَشَجَاعَةِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ
التَّخَلُّفَ عَنْ ذَلِكَ وَالْعَمَلَ بِخِلاَفِهِ يَكُونُ إِمَّا لِضَعْفِ
الإِْدْرَاكِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَرَاتِبَ الْمَحْبُوبِ
وَالْمَكْرُوهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، إِمَّا لِضَعْفٍ فِي النَّفْسِ وَعَجْزٍ
فِي الْقَلْبِ بِحَيْثُ لاَ يُطَاوِعُهُ عَلَى إِيثَارِ الأَْصْلَحِ؛ لِرَفْعِ
عِلْمِهِ بِأَنَّهُ الأَْصْلَحُ، فَإِذَا صَحَّ إِدْرَاكُهُ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ،
وَتَشَجَّعَ قَلْبُهُ عَلَى إِيثَارِ الْمَحْبُوبِ الأَْعْلَى وَالْمَكْرُوهِ
الأَْدْنَى فَقَدْ وُفِّقَ لأَِسْبَابِ السَّعَادَةِ.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَكُونُ سُلْطَانُ شَهْوَتِهِ أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ عَقْلِهِ وَإِيمَانِهِ،
فَيَقْهَرُ الْغَالِبُ الضَّعِيفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ إِيمَانِهِ
وَعَقْلِهِ أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ شَهْوَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ
الْمَرْضَى يَحْمِيهِ الطَّبِيبُ عَمَّا يَضُرُّهُ، فَتَأْبَى عَلَيْهِ نَفْسُهُ
وَشَهْوَتُهُ إِلاَّ تَنَاوُلَهُ، وَيُقَدِّمُ شَهْوَتَهُ عَلَى عَقْلِهِ، وَتُسَمِّيهِ
الأَْطِبَّاءُ: عَدِيمَ الْمُرُوءَةِ، فَهَكَذَا أَكْثَرُ مَرْضَى الْقُلُوبِ
يُؤْثِرُونَ مَا يَزِيدُ مَرَضَهُمْ، لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ لَهُ.
فَأَصْلُ الشَّرِّ مِنْ ضَعْفِ الإِْدْرَاكِ وَضَعْفِ النَّفْسِ وَدَنَاءَتِهَا، وَأَصْلُ الْخَيْرِ مِنْ كَمَالِ الإِْدْرَاكِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَشَرَفِهَا وَشَجَاعَتِهَا.
الصفحة 1 / 375