فَصْلٌ
ثُمَّ الْخُلَّةُ، وَهِيَ
تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَنِهَايَتَهَا، بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى فِي
الْقَلْبِ سَعَةٌ لِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ، وَهِيَ مَنْصِبٌ لاَ يَقْبَلُ
الْمُشَارَكَةَ بِوَجْهٍ مَا، وَهَذَا الْمَنْصِبُ خَاصٌّ لِلْخَلِيلَيْنِ -
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمَا - : إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ، كَمَا
قَالَ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً» ([1]).
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الأَْرْضِ
خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ
اللَّهِ» ([2]).
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ:
«إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ» ([3]).
وَلَمَّا سَأَلَ
إِبْرَاهِيمُ الْوَلَدَ فَأُعْطِيَهُ، وَتَعَلَّقَ حُبُّهُ بِقَلْبِهِ، فَأَخَذَ
مِنْهُ شُعْبَةً، غَارَ الْحَبِيبُ عَلَى خَلِيلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ
مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ، فَأَمَرَهُ بِذَبْحِهِ، وَكَانَ الأَْمْرُ فِي الْمَنَامِ
لِيَكُونَتَنْفِيذُ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمَ ابْتِلاَءً وَامْتِحَانًا، وَلَمْ
يَكُنِ الْمَقْصُودُ ذَبْحَ الْوَلَدِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ ذَبْحُهُ مِنْ
قَلْبِهِ؛ لِيَخْلُصَ الْقَلْبُ لِلرَّبِّ، فَلَمَّا بَادَرَ الْخَلِيلُ إِلَى
الاِمْتِثَالِ، وَقَدَّمَ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّةِ وَلَدِهِ، حَصَلَ
الْمَقْصُودُ فَرُفِعَ الذَّبْحُ، وَفُدِيَ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مَا أَمَرَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ أَبْطَلَهُ رَأْسًا، بَلْ لاَ بُدَّ أَنْ يُبْقِيَ بَعْضَهُ أَوْ بَدَلَهُ، كَمَا أَبْقَى شَرِيعَةَ الْفِدَاءِ، وَكَمَا أَبْقَى اسْتِحْبَابَ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُنَاجَاةِ، وَكَمَا أَبْقَى الْخَمْسَ الصَّلَوَاتِ بَعْدَ رَفْعِ الْخَمْسِينَ
الصفحة 1 / 375