لكِن ما يَنفعه، صَار بصرُه
قويًّا يُشاهد ما هُو قادمٌ عليه، ولكِن لا يَتمكَّن أنه يَستدرك وأنه يَستعد، فاتَ
عليه هَذا، وقد كانَ على بصرِه في الدنيَا غِطاء وغِشاوة، نائمٌ وغَافل ولا يَدري،
ولم يتنبَّه إلا عِند المَوت، ويَزول عنه الغِطاء في وقتٍ لا يَنفعه ذلكَ.
فمَن لم يَصبِر على ألمِ
الطَّاعة وتَعَب الطاعةِ في هذه الدنيَا فإنه سيَتألَّم لفَواتها عِند المَوت، ولا
يَكفي أنه يتألَّم للفَوات، بل يَحلّ عليه العذابُ، ففاتَه الثَّواب وحَلَّ به
العِقابُ ولا حولَ ولا قُوَّة إلا باللهِ.
والثَّالثة: أنه لا يُمكِنه أن
يَستدرك وأن يَتراجع، خِلافًا للمُؤمن فإنه وإن تعبَ في هذه الدنيَا قليلاً فإنه
يَستريحُ دائمًا ويَستريحُ طويلاً.
وقوله: «فَاعْرِضْ عَلَى نَفْسِكَ الآْنَ أَعْظَمَ
مَحْبُوبٍ لَكَ فِي الدُّنْيَا» هذا مِثالٌ، يَقول: لو كانَ عِندك شيءٌ تُحِبه
مَحبة شَديدة ثم نُزِع مِنك، فكَيف يكُون تَألُّمك لفَقده وذَهابه؟ مع أن هَذا
الشيءَ يُمكِن تَعويضه في هَذه الدنيَا، لكِن ما يَفوتك مِن الآخِرة أشدَّ من هذا
ولا يُمكِن أن يُعوَّض { وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ وُقِفُواْ
عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا
وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢٧بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ
وَلَوۡ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ ٢٨ } [الأنعام: 27، 28]
.
اللهُ يَعلمُ أنهم لو
رُدُّوا إلى الدنيَا ستَعود عليهم حَالة الغَفْلة والحِرمان والكَسَل، فهو يَعلمُ
سبحانه وتعالى ما يكُون مِنهم.
وقوله: «اطْلُبْنِي» يَعني: اطلبنِي بالعِبادة
والذِّكْر، فإذا قُمْتَ بهذا وجدتَ اللهَ سبحانه وتعالى مَعك، يَتولاَّك بإعانتِه
وتَوفيقه {إِنَّ ٱللَّهَ
مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ} [النحل: 128] ، أمَّا إذا أعرضتَ عن اللهِ أعرضَ اللهُ
عَنك، وفَقدت كُلَّ شيءٍ، ولم يبقَ مَعك شيءٌ.
***
الصفحة 27 / 375