وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ
عَامًّا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ - وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي حَدِّ الزِّنَا خَاصَّةً
لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى ذِكْرِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ لاَ يَجِدُونَ فِي
قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالْقَسْوَةِ عَلَى الزَّانِي مَا يَجِدُونَهُ
عَلَى السَّارِقِ وَالْقَاذِفِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ، فَقُلُوبُهُمْ تَرْحَمُ
الزَّانِيَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرْحَمُ غَيْرَهُ مِنْ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ،
وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَنُهُوا أَنْ تَأْخُذَهُمْ هَذِهِ الرَّأْفَةُ
وَتَحْمِلَهُمْ عَلَى تَعْطِيلِ حَدِّ اللَّهِ.
وَسَبَبُ هَذِهِ
الرَّحْمَةِ: أَنَّ هَذَا ذَنْبٌ يَقَعُ مِنَ الأَْشْرَافِ وَالأَْوْسَاطِ
وَالأَْرَاذِلِ، وَفِي النُّفُوسِ أَقْوَى الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، وَالْمُشَارِكُ
فِيهِ كَثِيرٌ، وَأَكْثَرُ أَسْبَابِهِ الْعِشْقُ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ إِلَى
رَحْمَةِ الْعَاشِقِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعُدُّ مُسَاعَدَتَهُ طَاعَةً
وَقُرْبَةً، وَإِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ الْمَعْشُوقَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ،
وَلاَ يَسْتَنْكِرُ هَذَا الأَْمْرَ، فَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ مَا شَاءَ اللَّهُ
مِنْ أَشْبَاهِ الأَْنْعَامِ، وَلَقَدْ حَكَى لَنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا
نُقَّاصُ الْعُقُولِ كَالْخُدَّامِ وَالنِّسَاءِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا
ذَنْبٌ غَالِبًا مَا يَقَعُ مَعَ التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلاَ يَقَعُ
فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ وَالاِغْتِصَابِ مَا تَنْفُرُ النُّفُوسُ
مِنْهُ، وَفِي النُّفُوسِ شَهْوَةٌ غَالِبَةٌ لَهُ، فَيُصَوِّرُ ذَلِكَ لَهَا، فَتَقُومُ
بِهَا رَحْمَةٌ تَمْنَعُ إِقَامَةَ الْحَدِّ.
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ضَعْفِ
الإِْيمَانِ. وَكَمَالُ الإِْيمَانِ أَنْ تَقُومَ بِهِ قُوَّةٌ يُقِيمُ بِهَا
أَمْرَ اللَّهِ، وَرَحْمَةٌ يَرْحَمُ بِهَا الْمَحْدُودَ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا
لِرَبِّهِ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُمَا بِمَشْهَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلاَ يَكُونُ فِي خَلْوَةٍ بِحَيْثُ لاَ يَرَاهُمَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي مَصْلَحَةِ الْحَدِّ، وَالْحِكْمَةُ الزَّجْرُ.