×
دروس التفسير في المسجد الحرام الجزء الأول

صابرًا محتسبًا ثابتًا على دينه لا يتضعضع، جاءوا به ولم يستطيعوا أن يقربوا مِنَ النَّار، فوضعوه في المنجنيق، وهي آلة قاذفة مثل المدفع اليوم، وضعوه في المنجنيق فقذفوه في النَّار، ولمَّا قذفوه في النَّار قال الله عز وجل للنَّار: ﴿قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ [الأنبياء: 69]، فصارت بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام.

وما كان منه حينما وضعوه في المنجنيق ليقذفوه في النَّار، ما كان منه إلاَّ أن دعا ربه فقال: حسبنا ﴿قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ ٦٩ وَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِينَ ٧٠ [الأنبياء: 69، 70]. وهذه الكلمةُ: ﴿حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَمَا قَالَ لَهُ الْكُفَّار: ﴿إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ [آل عمران: 173] ([1])، وفي الحديث: «إِذَا وَقَعْتُمْ في الأَمْرِ العَظِيمِ؛ فَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»([2]).

وبعد هذه الحادثة العظيمة أمره الله بأن يهاجر فينتقل مِنْ بلاد بابل التي فيها هؤلاء المشركون، أنْ يهاجر منها إلى أرض الشام، فهاجر إلى أرض الشام فارًّا بدينه مِنْ أرض الكفر إلى بلدٍ غير بلده، فرارًا بدينه وطاعةً لله؛ ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيٓۖ [العنكبوت: 26]، ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهۡدِينِ [الصافات: 99]، فهاجر عليه السلام مِنْ أرض بابل في العراق إلى أرض الشام، ثم أمره الله عز وجل أن يأخذ بعض ذريته مِنْ أرض الشام ويأتي بهم إلى هذا الوادي الذي ليس فيه في ذلك الوقت أحدٌ، وليس فيه ماءٌ وليس فيه زرع.


الشرح

([1]) أخرجه: البخاري رقم (4563).

([2]) السيوطي في الدر المنثور (20/390)، وعزاه لابن مردويه.