هذا الحديثُ حديثٌ
عظيمٌ بَيَّنَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْكَانَ الإِسْلاَمِ، وَأَرْكَانَ
الإِيْمَانِ، وَبَيَّنَ فِيهِ الإِحْسانَ، وبَيَّنَ فيهِ شَيئًا مِن عَلاماتِ
السَّاعَةِ، وهذا الحَديثُ بَيَّنَ الدِّينَ كُلَّهُ، وأَنَّ الدِّينَ مَراتِبُ،
والنَّاسُ ليسُوا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فِي الدِّينِ، فَمِنْهُمْ: المسلِمُ، ثُمَّ
المؤمِنُ، ثُمَّ المحسِنُ، وَهَذِهِ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ،
وَبَعْضُهَا أَوْسَعُ مِنْ بَعْضٍ، إلاَّ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ أَحدِ هذه
المَراتِبِ حَسَبَ الاسْتِطَاعَةِ.
قَوْلُه: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم »، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم مِنْ عَادَتِهِم أَنَّهُم يَجْلِسُونَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ وَيَسْتَرْشِدُونَ مِنْه، وَيَسْأَلُونَهُ عَنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَفِي جَلْسَةٍ مِنْ جَلَسَاتِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَخلَ عَلَيْهِم رَجُلٌ فِي صُورَةٍ عَجِيبَةٍ، لَمْ يَكُونُوا يَأْلفُونَها، كما قَال: «إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ؛ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ»، فَهَذَا مِنَ العَجَائِبِ؛ لأَنَّه لَو كان مِنْ أَهْلِ البلَدِ لعَرفُوه، فَدَلَّ على أَنَّه مِنْ خَارجِ البلَدِ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَليهِ أَثَرُ السَّفَرِ؛ لأَنَّ العَادَةَ أَنَّ المسَافرَ يَكونُ شَعْثًا، «أَشْعَثَ أَغْبَرَ»([1]) كَمَا فِي الحديثِ؛ لَأَنَّ السَّفَرَ يَقْتَضِي أَنَّ الإِنْسانَ لا يَعْتنِي بِنَفْسِهِ أَو بِهِنْدامِهِ أَوْ بِجِسْمِهِ، فَهَذَا الرَّجُلُ لَيْسَ غَرِيبًا وَلَيْسَ مُوَاطِنًا؛ لَأَنَّهُ لاَ يَظْهَرُ عَلَيْهِ عَلاَمَاتُ السَّفَرِ، وَلَيْسَ مُوَاطِنًا؛ لَأَنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَهُ، وَلَوْ كَانَ فِي البَلَدِ لَعَرَفُوه، وَتَبيَّنَ فِي الأَخِيرِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام أَتَى بِهَذِهِ الصُّورَةِ.