قالَ: «مَوْعِظَةً
وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ» يعني: خافَتْ، «وَذَرَفَتْ مِنْهَا
الْعُيُونُ» يعني: بَكتْ، وهذا مِن كمالِ وَعْظِه صلى الله عليه وسلم وتأثيرِه
على النَّاسِ. وفي هذا بيانٌ لمَا كان عليهِ الصَّحابةُ رضي الله عنهم مِن قَبولِ
الوَعظِ والتَّأثُّرِ به، بخِلافِ الَّذينَ يَسمَعون الوَعظ ولا يَتأثَّرون به،
هؤلاءِ قد قَسَتْ قُلُوبُهم، أمَّا التَّأثُّرُ بالوَعظِ فهو دليلٌ على سلامَةِ
القَلبِ منَ القَسوةِ.
قالَ: «فَقُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ» يعني: كأنَّ هذا يدُلُّ
على قُرْبِ أجَلِك؛ لأنَّ العادةَ أنَّ الإنسَانَ يُوصي مَن خَلْفَه إمَّا عندَ
سَفَرِه، وإمَّا عندَ مَوْتِه.
قَالَ: «فَأَوْصِنَا،
قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عز وجل، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ
أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى
اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ» فأَوْصَى بهذه الأمورِ:
أوَّلاً: تَقْوَى اللهِ
بفِعْلِ أوامِرِه وتَركِ نَواهِيه، رجاءً لثَوابِه وخَوفًا من عِقابِه.
الثَّاني: السَّمعُ والطَّاعةُ لوُلاةِ الأُمورِ؛ لأنَّه في هذا جَمْعُ الكلمةِ، وفيه مَصالِحُ الدُّنيا والدِّينِ، إذا اجتَمعَتِ الكَلمةُ على إمامٍ مِن أئِمَّةِ المسلمينَ وقادَهم فإنَّ هذا يَحصلُ فيه الخيرَ كلَّه، ويَحصُلُ فيه اجتماعُ الكلمةِ وعدمُ التَّفرُّقِ، ويَحصلُ فيه تَنفِيذُ الحُدودِ على العُصاةِ، ويَحصُلُ فيه الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهْيُ عنِ المُنكرِ، ويَحصُلُ فيه الحُكْمُ بينَ النَّاسِ فيما اختَلَفُوا فيه، وقَطْعُ النِّزاعِ، ويَحصُلُ فيه الأمْنُ على الأنفُسِ والأموالِ والأعراضِ، فيَحصُلُ فيه خيراتٌ كثيرةٌ؛ ولهذا أَوْصى بالسَّمْعِ