أمَّا أنْ يَطلُبَ الدُّنيا لذَاتِها، فهوَ
يَشتَغلُ بشَيءٍ ليس له ولا يَدومُ؛ لأنَّ الدُّنيا ليستْ له، «كُنْ فِي
الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ» ومَعلومٌ حالُ الغَريبِ الَّذي في غيرِ بَلدِه
أنَّه دائمًا يَتذكَّرُ وَطنَه ودارَه، ويَحنُّ إلى ذلك، ويُسرِعُ في الرُّجوعِ
إلى بلدِه مهْما أمْكَنَه.
قولُه: «عَابِرُ
سَبِيلٍ» يعني مِثْلَ الغريبِ، بمَعْنى أنَّك لا تَنْبسطُ فيها وتَشتغلُ بها،
وتُعطيها كلَّ فِكرك وقَلْبِك؛ لأنَّها ليست دارًا لك، بل كُن فِيها مُؤقَّتًا
تَنتظِرُ الرُّجوعَ إلى بَلدِك، والمسلمُ كذلكَ هو في الدُّنيا غريبٌ؛ لأنَّها
ليستْ دارًا له، الدَّارُ الَّتي خَلَقَها اللهُ للمُؤمنِ هي الجنَّةُ، وكان آدَمُ
وزَوجُه في الجنَّةِ، أسْكَنَهُما اللهُ في الجنَّةِ، ثمَّ حصَلَ منهُما
المُخالَفةُ لأمْرِ اللهِ وتابا ونَدِما، وتابَ اللهُ عليهِما ولكنْ أخرجَهُما منَ
الجنَّةِ، وأنزَلَهما إلى الأرْضِ، إلى دارٍ ليستْ دارًا لهُما، فكذلكَ ابنُ آدمَ
يَحِنُّ إلى وَطنِه الأوَّلِ الَّذي أُخْرجَ منه ليَرجِعَ إليه.
ثمَّ قال: «أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وهو المُسافرُ، والمسافرُ إنَّما يَستريحُ في أثْناءِ سَفرِه، ثمَّ يُواصِلُ السَّفرَ ولا يَستوطِنُ، فيكونُ المسلمُ في الدُّنيا مِثْلَ المسافرِ، وهو في الحَقيقةِ مُسافرٌ ليسَ مُقيمًا؛ لأنَّ مُدَّتَه في الدُّنيا قليلةٌ، وهو يَسيرُ إلى الآخِرةِ؛ تَسيرُ به الأيَّامُ واللَّيالي إلى الآخرَةِ، وهكذا يَنبَغي أنْ تكونَ حالةُ المسلمِ في الدُّنيا غريبًا أو عابرَ سَبيلٍ، وأنْ يكونَ هَمُّه الرُّجوعَ إلى بلَدِه، وبَلدُ المسلمِ هي الجنَّةُ، فيَستعدَّ لها، وتكونُ هي همَّهُ، وما يُوصِّلُه إليها.