أنه أجرى في الجنة هذه
الأنهار من شيء كان معروفًا عند الناس في الدنيا أنه قليل، وهذا مما يدل على أن
الجنة تختلف اختلافًا كثيرًا عما في الدنيا، لكن الذي في الدنيا مما في الجنة إنما
هو نماذج يسيرة، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلاَّ الأَْسْمَاءُ»
يعني: أن ما في الجنة يختلف كل الاختلاف عما في الدنيا، وإن كان الذي في الدنيا
يشبهه من بعض الوجوه، ويشاركه في الاسم، لكن يختلف عنه اختلافًا كثيرًا.
وكذلك سائر ما في الجنة من الثمرات والفواكه، تختلف عما في الدنيا اختلافًا
كثيرًا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وإنما يعرف الناس ما في الجنة بما يجدون
نظيره عندهم في الدنيا، وأمَّا ما ليس له نظير في الدنيا، فإن الله أخفاه عنهم،
ولا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، قال تعالى:﴿فَلَا
تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا
كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [السجدة: 17] فلا يحيط بأوصاف الجنة وما فيها إلا الله
سبحانه وتعالى، وإنما بين لنا أشياء مما فيها لأجل أن نعرف ذلك فنجد في طلبه،
والسعي لحصوله بالأعمال الصالحة، كما أنه جعل الدنيا نماذج مما في النار؛ من أجل
أن نخاف من النار ونجتنب ما يسبب دخولها، فكل ما يتألم الناس منه في الدنيا، وكل
ما يكرهونه في الدنيا، وكل مرض وكل آفة وكل شر في الدنيا، إن نظيره في النار -
والعياذ بالله - لكن ما في النار أشد وأبقى.
فإذا عرف الناس هذه النماذج التي في الدنيا مما في النار، سبب ذلك الخوف والفرار من النار، فالحر والبرد الشديدان -مثلاً في الدنيا- لهما نظير في النار، لكنه أشدة وأعظم وأبقى، كذلك النار التي في الدنيا، أيضًا نار الآخرة أشد منها وأبقى وأحر:﴿قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ﴾ [التوبة: 81]، كذلك الآلام؛ النار فيها آلام لا يعلمها