الفَصْلُ الخَامِسُ
فِي
بَيَانِ استلزام تَوْحِيد الرُّبُوبِيَّةِ لِتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ
****
وَمَعنى ذَلِكَ: أَن مَنْ
أَقَرَّ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلهِ؛ فَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لاَ خَالِقَ وَلاَ
رازق وَلاَ مُدَبِّرَ لِلكَوْنِ إِلاَّ اللهُ عز وجل - لَزِمَهُ أَنْ يُقِرَّ
بِأَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ العِبَادَة بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا إِلاَّ اللهُ
سُبْحَانَهُ، وَهَذَا هُوَ تَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ؛ فَإِنَّ الأُلُوهِيَّةَ هِيَ
العِبَادَة؛ فَالإِلَهُ مَعْناه: المَعْبُودُ؛ فَلاَ يُدْعى إِلاَّ اللهُ، وَلاَ
يُسْتَغَاثُ إِلاَّ بِهِ، وَلاَ يُتَوَكَّلُ إِلاَّ عَلَيْهِ، وَلاَ تُذبحُ
القَرَابِينُ وَتنْذرُ النُّذُور، وَلاَ تصْرفُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ
إِلاَّ لَهُ؛ فَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ دَلِيل عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِ
الأُلُوهِيَّةِ؛ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَحْتَجُّ اللهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى
المُنْكِرِينَ لِتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ بِمَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ
الرُّبُوبِيَّةِ؛ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي
خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ٢١ٱلَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ
فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا
وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٢﴾
[البَقَرَة: 21-22].
فَأَمَرَهُمْ بِتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ، وَهُوَ عِبَادَتُهُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهمْ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ الَّذِي هُوَ خلْقُ النَّاسِ الأَوَّلينِ وَالآخرينِ، وَخَلق السَّمَاء وَالأَرْض وَمَا فِيهِمَا، وَتَسْخِيرُ الرِّيَاحِ، وَإِنْزَالُ المَطَرِ، وإنبات النَّبَات، وَإِخْرَاجُ الثَّمَرَاتِ الَّتِي هِيَ رزق العبَاد، فَلاَ يَلِيقُ بِهِمْ أَنْ يُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْره؛ مِمَّنْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ يفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَالطَّرِيق الفِطْرِيّ لِإِثْبَات تَوْحِيد الأُلُوهِيَّةِ: الاِسْتِدْلاَلُ عَلَيْهِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ فَإِنَّ الإِنْسَانَ يَتَعَلَّقُ أولاً بِمَصْدَرِ خَلْقِهِ، وَمَنْشَأ نَفْعه وَضُرّه، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الوَسَائِلِ الَّتِي تُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، وَتُرْضِيهِ عَنْه، وَتُوثقُ الصِّلَة بَيْنَه وبينه،
الصفحة 1 / 188