بِدْعَةُ التَّصَوُّفِ، وَبِدْعَةُ البِنَاءِ
عَلَى القُبُورِ بَعْدَ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ، وَهَكَذَا كُلَّمَا تَأَخَّرَ
الوَقْتُ، زَادَتِ البِدَعُ وَتَنَوَّعَتْ.
المَسْأَلَةُ الثَّانِيةُ: مَكَانُ ظُهُورِ البِدَعِ:
تَخْتَلِفُ البُلْدَانُ الإِسْلاَمِيَّةُ فِي ظُهُورِ
البدَعِ فِيهَا؛ قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: «فَإِنَّ
الأَمْصَارَ الكِبَارَ الَّتِي سَكَنَهَا أَصْحَابُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه
وسلم، وَخَرَجَ مِنْهَا العِلْمُ وَالإِيمَانُ خَمْسَة: الحَرَمَانِ،
وَالعِرَاقَانِ، وَالشَّامُ؛ مِنْهَا خَرَجَ القُرْآنُ وَالحَدِيثُ، وَالفِقْهُ
وَالعِبَادَة، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الإِسْلاَمِ، وَخَرَجَ مِنْ
هَذِهِ الأَمْصَارِ بِدَع أُصُوليَّة - غَيْرِ المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ -
فَالكُوفَةُ خَرَجَ مِنْهَا التَّشَيُّعُ وَالإِرْجَاءُ، وَانْتَشَرَ بَعْدَ
ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا، وَالبَصْرَةُ خَرَجَ مِنْهَا القَدَرُ وَالاِعْتِزَالُ
وَالنُّسُكُ الفَاسِدُ، وَانْتَشَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا، وَالشَّام كَانَ
بِهَا النَّصْبُ وَالقَدَرُ، وَأَمَّا التَّجَهُّمُ، فَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي
نَاحِيَةِ خُرَاسَانَ، وَهُوَ شَرُّ البِدَعِ.
وَكَانَ ظُهُورُ البِدَعِ بِحَسَبِ البُعْدِ عَن الدَّارِ النَّبَوِيَّةِ، فَلَمَّا حَدَثَتِ الفُرْقَة بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، ظَهَرَتْ بِدْعَةُ الحَرْورِيَّةِ، وَأَمَّا المَدِينَةُ النَّبَوِيَّةُ، فَكَانَتْ سَلِيمَةً مِنْ ظُهُورِ هَذِهِ البِدَعِ، وَإِنْ كَانَ بِهَا منْ هُوَ مُضْمِر لِذَلِكَ، فَكَانَ عَنْدَهُمْ مُهَانًا مَذْمُوَما؛ إِذْ كَانَ بِهَا قَوْم مِنَ القَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَكِنْ كَانُوا مَقْهُورِينَ ذَلِيلِينَ، بِخِلاَفِ التَّشَيُّعِ وَالإِرْجَاءِ فِي الكُوفَةِ، وَالاِعْتِزَالِ وَبِدَعِ النُّسَّاكِ بِالبَصْرَةِ، وَالنَّصْبِ بِالشَّامِ، فَإِنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَن الدَّجَّالَ لاَ يَدْخُلُهَا، وَلَمْ يَزَلِ العِلْمُ وَالإِيمَانُ ظَاهِرًا إِلَى زَمَنِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ القَرْنِ الرَّابعِ».