تَجَاوَزُوا الحَدَّ فِي مَدْحِي، كَمَا غَلَتِ
النَّصَارَى فِي عِيسَى عليه السلام؛ فَادَّعَوْا فِيهِ الأُلُوهِيَّةَ،
وَصِفُونِي بِمَا وَصَفَنِي بِهِ رَبِّي، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ،
وَلمَّا قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَالَ: «السَّيِّدُ اللهُ تبارك وتعالى »،
وَلَمَّا قَالُوا: أَفْضَلُنَا وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً، فَقَالَ: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ
قَوْلِكُمْ، وَلاَ يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» ([1]).
وَقَالَ لَهُ نَاسٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَا خَيْرَنَا
وَابْنَ خَيْرِنَا، وَسَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا
بِقَوْلِكُمْ، وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ
اللهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي
أَنْزَلَنِي اللهُ عز وجل » ([2])؛
كَرِهَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْدَحُوهُ بِهَذِهِ الأَلْفَاظِ: أَنْتَ
سَيِّدُنَا - أَنْتَ خَيْرُنَا -أَنْتَ أَفْضَلُنا- أَنْتَ أَعْظَمُنَا، مَعَ
أَنَّهُ أَفْضَلُ الخَلْقِ وَأَشْرَفُهُمْ عَلَى الإِطْلاَقِ، لَكِنَّهُ نَهَاهُمْ
عَنْ ذَلِكَ، ابْتِعَادًا بِهِمْ عَنِ الغُلُوِّ وَالإِطْرَاءِ فِي حَقِّهِ،
وَحِمَايَةً لِلتَّوْحِيدِ، وَأَرْشَدَهُمْ أَنْ يَصِفُوهُ بِصِفَتَيْنِ، هُمَا
أَعْلَى مَرَاتِبِ العَبْدِ، وَلَيْسَ فِيهِمَا غُلُوٌّ وَلاَ خَطَرٌ عَلَى
العَقِيدَةِ؛ وَهُمَا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يُحِبَّ أَنْ
يَرْفَعُوهُ فَوْقَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ عز وجل مِنَ المَنْزِلَةِ الَّتِي
رَضِيَهَا لَهُ.
وَقَدْ خَالَفَ نَهْيَهُ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ فَصَارُوا يَدْعُونَهُ، وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِ، وَيَحْلِفُونَ بِه،
وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ مَا لاَ يُطْلَبُ إِلاَّ مِنَ اللهِ، كَمَا يُفْعَلُ فِي
المَوَالِدِ وَالقَصَائِدِ وَالأَنَاشِيدِ، وَلاَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ حَقِّ اللهِ
وَحَقِّ الرَّسُولِ.
يَقُولُ العَلاَّمَةُ ابْنُ القَيِّم رحمه الله فِي «النُّونِيَّةِ»:
للهِ حَقٌّ لاَ يَكُونُ لِغَيْرِهِ
**** وَلِعَبْدِهِ حَقٌّ، هُمَا حَقَّانِ
لاَ تَجْعَلُوا الحَقَّيْنِ حَقًّا وَاحِدًا **** مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ وَلاَ فُرْقَانِ
([1]) أخرجه: أحمد رقم (13553)، وأبو داود رقم (4806)، والنسائي، رقم (10074).