فَصْلٌ
وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ:
أَنَّهَا تُطْفِئُ مِنَ الْقَلْبِ نَارَ الْغَيْرَةِ الَّتِي هِيَ لِحَيَاتِهِ
وَصَلاَحِهِ كَالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ لِحَيَاةِ جَمِيعِ الْبَدَنِ،
فَالْغَيْرَةُ حَرَارَتُهُ وَنَارُهُ الَّتِي تُخْرِجُ مَا فِيهِ مِنَ الْخُبْثِ
وَالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، كَمَا يُخْرِجُ الْكِيرُ خُبْثَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ، وَأَشْرَفُ النَّاسِ وَأَعْلاَهُمْ هِمَّةً
أَشَدُّهُمْ غَيْرَةً عَلَى نَفْسِهِ وَخَاصَّتِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ.
وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم أَغْيَرَ الْخَلْقِ عَلَى الأُْمَّةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَشَدُّ غَيْرَةً مِنْهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم
أَنَّهُ قَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ،
وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي» ([1]).
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أحد
أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ» ([2]).
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ
إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ
اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ» ([3]).
فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ الْغَيْرَةِ الَّتِي أَصْلُهَا كَرَاهَةُ الْقَبَائِحِ وَبُغْضُهَا، وَبَيْنَ مَحَبَّةِ الْعُذْرِ الَّذِي يُوجِبُ كَمَالَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالإِْحْسَانِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ يُحِبُّ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ عَبْدُهُ،
([1])أخرجه: البخاري رقم (6846)، ومسلم رقم (1499).
الصفحة 1 / 436