فصل
وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا: أَنَّهَا
تُوقِعُ الْوَحْشَةَ الْعَظِيمَةَ فِي الْقَلْبِ، فَيَجِدُ الْمُذْنِبُ نَفْسَهُ
مُسْتَوْحِشًا، قَدْ وَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَبَيْنَ
الْخَلْقِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الذُّنُوبُ اشْتَدَّتِ
الْوَحْشَةُ، وَأَمَرُّ الْعَيْشِ عَيْشُ الْمُسْتَوْحِشِينَ الْخَائِفِينَ،
وَأَطْيَبُ الْعَيْشِ عَيْشُ الْمُسْتَأْنِسِينَ، فَلَوْ نَظَرَ الْعَاقِلُ
وَوَازَنَ لَذَّةَ الْمَعْصِيَةِ وَمَا تُوقِعُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْوَحْشَةِ،
لَعَلِمَ سُوءَ حَالِهِ، وَعَظِيمَ غَبْنِهِ؛ إِذْ بَاعَ أُنْسَ الطَّاعَةِ
وَأَمْنَهَا وَحَلاَوَتَهَا بِوَحْشَةِ الْمَعْصِيَةِ وَمَا تُوجِبُهُ مِنَ
الْخَوْفِ.
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ |
|
فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ |
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ:
أَنَّ الطَّاعَةَ تُوجِبُ الْقُرْبَ مِنَ الرَّبِّ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّ الْقُرْبُ
قَوِيَ الأُْنْسُ، وَالْمَعْصِيَةُ تُوجِبُ الْبُعْدَ مِنَ الرَّبِّ، وَكُلَّمَا
زَادَ الْبُعْدُ قَوِيَتِ الْوَحْشَةُ. وَلِهَذَا يَجِدُ الْعَبْدُ وَحْشَةً
بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ لِلْبُعْدِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ
مُلاَبِسًا لَهُ، قَرِيبًا مِنْهُ، وَيَجِدُ أُنْسًا قَوِيًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مَنْ يُحِبُّ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ.
وَالْوَحْشَةُ سَبَبُهَا
الْحِجَابُ، وَكُلَّمَا غَلُظَ الْحِجَابُ زَادَتِ الْوَحْشَةُ، فَالْغَفْلَةُ
تُوجِبُ الْوَحْشَةَ، وَأَشَدُّ مِنْهَا وَحْشَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَأَشَدُّ
مِنْهَا وَحْشَةُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَلاَ تَجِدُ أَحَدًا مُلاَبِسًا شَيْئًا
مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ وَيَعْلُوهُ مِنَ الْوَحْشَةِ بِحَسْبِ مَا لاَبَسَهُ مِنْهُ،
فَتَعْلُو الْوَحْشَةُ وَجْهَهُ وَقَلْبَهُ فَيَسْتَوْحِشُ وَيُسْتَوْحَشُ مِنْهُ.
****
الشرح
ولذلكَ تَجِد العُصاة مُنعزلين خَجولين مِن الناسِ، لا يَأنسون إلا معَ أمثالِهم، ولا يَأنسون معَ أهلِ الخيرِ والطيِّبين، ولو جَلسوا مَعهم تَجِدهم لا يَنبسِطون.
الصفحة 1 / 436