فَصْلٌ
وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا:
أَنَّهَا تُؤَثِّرُ بِالْخَاصَّةِ فِي نُقْصَانِ الْعَقْلِ، فَلاَ تَجِدُ
عَاقِلَيْنِ أَحَدُهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ وَالآْخَرُ عَاصٍ، إِلاَّ وَعَقْلُ
الْمُطِيعِ مِنْهُمَا أَوْفَرُ وَأَكْمَلُ، وَفِكْرُهُ أَصَحُّ، وَرَأْيُهُ
أَسَدُّ، وَالصَّوَابُ قَرِينُهُ.
وَلِهَذَا تَجِدُ خِطَابَ
الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ أُولِي الْعُقُولِ وَالأَْلْبَابِ، كَقَوْلِهِ: {وَٱتَّقُونِ
يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} [الْبَقَرَةِ: 197] ، وَقَوْلِهِ: {فَٱتَّقُواْ
ٱللَّهَ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} [الْمَائِدَةِ:
100] ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} [الْبَقَرَةِ: 269] ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَكَيْفَ يَكُونُ عَاقِلاً
وَافِرَ الْعَقْلِ مَنْ يَعْصِي مَنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ وَفِي دَارِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ
أَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ فَيَعْصِيهِ وَهُوَ بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُتَوَارٍ
عَنْهُ، وَيَسْتَعِينُ بِنِعَمِهِ عَلَى مَسَاخِطِهِ، وَيَسْتَدْعِي كُلَّ وَقْتٍ
غَضَبَهُ عَلَيْهِ، وَلَعْنَتَهُ لَهُ، وَإِبْعَادَهُ مِنْ قُرْبِهِ، وَطَرْدَهُ
عَنْ بَابِهِ، وَإِعْرَاضَهُ عَنْهُ، وَخِذْلاَنَهُ لَهُ، وَالتَّخْلِيَةَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَعَدُوِّهِ، وَسُقُوطَهُ مِنْ عَيْنِهِ،
وَحِرْمَانَهُ رُوحَ رِضَاهُوَحُبَّهُ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ بِقُرْبِهِ،
وَالْفَوْزَ بِجِوَارِهِ، وَالنَّظَرَ إِلَى وَجْهِهِ فِي زُمُرَةِ أَوْلِيَائِهِ،
إِلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ أَهْلَ الطَّاعَةِ،
وَأَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ عُقُوبَةِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ؟!
فَأَيُّ عَقْلٍ لِمَنْ آثَرَ لَذَّةَ سَاعَةٍ أَوْ يَوْمٍ أَوْ دَهْرٍ، ثُمَّ تَنْقَضِي كَأَنَّهَا حُلْمٌ لَمْ يَكُنْ، عَلَى هَذَا النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ؟! بَلْ هُوَ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَلَوْلاَ الْعَقْلُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَانِينِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْمَجَانِينُ أَحْسَنَ حَالاً مِنْهُ وَأَسْلَمَ عَاقِبَةً، فَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الصفحة 1 / 436