فَصْلٌ
وَالَّتِي عَلَى
الأَْبْدَانِ أَيْضًا نَوْعَانِ: نَوْعٌ فِي الدُّنْيَا، وَنَوْعٌ فِي الآْخِرَة،
وَشِدَّتُهَا وَدَوَامُهَا بِحَسَبِ مَفَاسِدِ مَا رُتِّبَتْ عَلَيْهِ فِي
الشِّدَّةِ وَالْخِفةِ.
فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا
وَالآْخِرَةِ شَرٌّ أَصْلاً إِلاَّ الذُّنُوبَ وَعُقُوبَاتِهَا، فَالشَّرُّ اسْمٌ
لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ وَسَيِّئَاتِ الأَْعْمَالِ،
وَهُمَا الأَْصْلاَنِ اللَّذَانِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِيذُ
مِنْهُمَا فِي خُطْبَتِهِ بِقَوْلِهِ: «وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ
أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا» ([1]).
وَسَيِّئَاتُ الأَْعْمَالِ
مِنْ شُرُورِ النَّفْسِ، فَعَادَ الشَّرُّ كُلُّهُ إِلَى شَرِّ النَّفْسِ، فَإِنَّ
سَيِّئَاتِ الأَْعْمَالِ مِنْ فُرُوعِهِ وَثَمَرَاتِهِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى
قَوْلِهِ: «وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا» هَلْ مَعْنَاهُ: السَّيِّئُ مِنْ
أَعْمَالِنَا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ النَّوْعِ إِلَى جِنْسِهِ، أَوْ
تَكُونُ «مِنْ» بَيَانِيَّةً؟ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: مِنْ عُقُوبَاتِهَا الَّتِي
تَسُوءُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمِنْ عُقُوبَاتِ أَعْمَالِنَا الَّتِي
تَسُوؤُنَا.
وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ: أَنَّ الاِسْتِعَاذَةَ تَكُونُ قَدْ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ الشَّرِّ، فَإِنَّ شُرُورَ الأَْنْفُسِ تَسْتَلْزِمُ الأَْعْمَالَ السَّيِّئَةَ، وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْعُقُوبَاتِ السَّيِّئَةَ، فَنَبَّهَ بِشُرُورِ الأَْنْفُسِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ قُبْحِ الأَْعْمَالِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِهَا مِنْهُ، أَوْ هِيَ أَصْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ غَايَةَ الشَّرِّ وَمُنْتَهَاهُ، وهُوَ السَّيِّئَاتُ الَّتِي تَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ عَمَلِهِ، مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَالآْلاَمِ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الاِسْتِعَاذَةُ أَصْلَ الشَّرِّ وَفُرُوعَهُ وَغَايَتَهُ وَمُقْتَضَاهُ.
الصفحة 1 / 436