ثم قالَ المُصنف هنا: «والأمرُ الثانِي: أن يَحذر
مُغالطة نفسِه على هَذه الأسبابِ» أي: يَحذر أن يقعَ فيما وقعَ فيه المُغالِطون من
غُلاة الصُّوفِيَّة الذِين يُنكِرون فِعلَ الأسبابِ، ويَعتمدون على القَضاءِ
والقَدَر فَقط، مع أنهم لا يَعملون بذلك في أنفسِهم، فهم إذا جَاعوا يأكلُون، وإذا
عَطشوا يشربُون، وإذا مَرِضوا يَتَدَاوُون، فيُعمِلون الأسبابَ في هذه الأمورِ ولا
يَقولون: إن كانَ اللهُ قَضَى وقَدَّر أن تَحصُل فلا بُدَّ أن تَحصُل بدونِ أن
نفعلَ شيئًا.
وقوله: «وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ
مَا فَعَلَ ثُمَّ قَالَ: «أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ»، زَالَ أَثَرُ الذَّنْبِ
وَرَاحَ هَذَا بِهَذَا»، كُل هذا مِن الآفاتِ التي تَحُول بينَ العَبْد وبينَ
معرفةِ الحَق وإدراكِ الحِكْمَة في هَذا الخَلْق، فمِن أعظَم المُعَوِّقات أن
يَتَّكِل الإنسانُ على عَفْو اللهِ ولا يُعمِل الأسبابَ؛ لأن العَفو له أسبابٌ،
والرحمَة لها أسبابٌ، والمَغفرة لها أسبابٌ، أما أن يعتمدَ على عفوِ اللهِ وعَلى
رحمةِ اللهِ، ولا يُعمِل الأسبابَ التِي تسبِّب الرحمَة والعَفو والمَغفرة، فهذا
مُغالطةٌ، أو أن يَقتدِي بما لا يَصلُح للقُدوة مِن الناسِ، ويَعمل مِثل عَمله،
ويَقول: لو كانَ هذا العَمَل غَير طَيِّب ما عَمله فُلان. وكُل هذا مِن المُغالطة.
وبَعضهم يُقِيم على الذنوبِ
والمَعاصي ويَحْتَجّ بأحاديثِ المَغفرة الثابتَة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ،
ويَقول: «أنا أفعلُ ما أفعلُ، ثم أقولُ:
سُبحانَ اللهِ وبحَمده، مِائة مَرَّة، وقد غُفِر ذلكَ أجمعُه»، يَعني: يَفعل
ما يَفعل مِن المَعاصي، ثم يُسبِّح اللهَ ويَأتي بالذكرِ، ويَظُن أن هذا يَغفِر
ذُنوبه، بدونِ أن يتوبَ إلى اللهِ، بل وهو مُستمِر على المَعاصي.
والذنوبُ لا تُحَط عن العبدِ بمُجرَّد الذكرِ، وإنما تُحَط مع التوبةِ، إذا تابَ إلى اللهِ واستغفرَ وسبَّح وأتَى بالأذكارِ، فإن اللهَ يَغفِر له،