بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الرَّجُلِ كُلَّ يَوْمٍ
بِجُمْلَةِ مَالِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ، وَكُلَّمَا تَضَّاعَفَ الْمَالُ
تَضَّاعَفَ الرِّبْحُ، فَقَدْ رَاحَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْمَعْصِيَةِ ارْتِفَاعٌ
وَرِبْحٌ بجْمِلُهُ أَعْمَالُهُ، فَإِذَا اسْتَأْنَفَ الْعَمَلَ اسْتَأْنَفَ صُعُودًا
مِنْ نُزُولٍ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ صَاعِدًا مِنْ نزول، وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ
عَظِيمٌ.
قَالُوا: وَمَثَلُ ذَلِكَ
رَجُلاَنِ يَرْتَقِيَانِ فِي سُلَّمَيْنِ لاَ نِهَايَةَ لَهُمَا، وَهُمَا سَوَاءٌ،
فَنَزَلَ أَحَدُهُمَا إِلَى أَسْفَلَ، وَلَوْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ
اسْتَأْنَفَ الصُّعُودَ، فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ يَعْلُو عَلَيْهِ وَلاَ
بُدَّ.
وَحَكَمَ شَيْخُ
الإِْسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رحمه الله بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمًا
مَقْبُولاً فَقَالَ: «التَّحْقِيقُ أَنَّ مِنَ التَّائِبِينَ مَنْ يَعُودُ إِلَى
أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَتِهِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَعُودُ إِلَى مِثْلِ دَرَجَتِهِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَى دَرَجَتِهِ».
قُلْتُ: وَهَذَا بِحَسْبِ
قُوَّةِ التَّوْبَةِ وَكَمَالِهَا، وَمَا أَحْدَثَتْهُ الْمَعْصِيَةُ لِلْعَبْدِ
مِنَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالإِْنَابَةِ، وَالْحَذَرِ وَالْخَوْفِ مِنَ
اللَّهِ، وَالْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَقَدْ تَقْوَى هَذِهِ الأُْمُورُ،
حَتَّى يَعُودَ التَّائِبُ إِلَى أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَتِهِ، وَيَصِيرَ بَعْدَ
التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ.
فَهَذَا قَدْ تَكُونُ
الْخَطِيئَةُ فِي حَقِّهِ رَحْمَةً، فَإِنَّهَا نَفَتْ عَنْهُ دَاءَ الْعُجْبِ،
وَخَلَّصَتْهُ مِنْ ثِقَتِهِ بِنَفْسِهِ وَإِدْلاَلِهِ بِأَعْمَالِهِ، وَوَضَعَتْ
خَدَّ ضَرَاعَتِهِ وَذُلَّهُ وَانْكِسَارَهُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِ سَيِّدِهِ
وَمَوْلاَهُ، وَعَرَّفَتْهُ قَدْرَهُ، وَأَشْهَدَتْهُ فَقْرَهُ وَضَرُورَتَهُ
إِلَى حِفْظِ مَوْلاَهُ لَهُ، وَإِلَى عَفْوِهِ عَنْهُ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُ،
وَأَخْرَجَتْ مِنْ قَلْبِهِ صَوْلَةَ الطَّاعَةِ، وَكَسَرَتْ أَنْفَهُ مِنْ أَنْ
يَشْمَخَ بِهَا أَوْ يَتَكَبَّرَ بِهَا، أَوْ يَرَى نَفْسَهُ بِهَا خَيْرًا مِنْ
غَيْرِهِ.
وَأَوْقَفَتْهُ بَيْنَ
يَدَيْ رَبِّهِ مَوْقِفَ الْخَطَّائِينَ الْمُذْنِبِينَ، نَاكِسَ الرَّأْسِ بَيْنَ
يَدَيْ رَبِّهِ، مُسْتَحِيًا خَائِفًا مِنْهُ وَجِلاً، مُحْتَقِرًا لِطَاعَتِهِ
مُسْتَعْظِمًا لِمَعْصِيَتِهِ،