وَمَكَثْتُ بِمَكَّةَ مُدَّةً يَعْتَرِينِي
أَدْوَاءٌ وَلاَ أَجِدُ طَبِيبًا وَلاَ دَوَاءً، فَكُنْتُ أُعَالِجُ نَفْسِي
بِالْفَاتِحَةِ، فَأَرَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا، فَكُنْتُ أَصِفُ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشْتَكِي أَلَمًا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَبْرَأُ سَرِيعًا.
وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ
يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الأَْذْكَارَ وَالآْيَاتِ
وَالأَْدْعِيَةَ الَّتِي يُسْتَشْفَى بِهَا وَيُرْقَى بِهَا، هِيَ فِي نَفْسِهَا
نَافِعَةٌ شَافِيَةٌ، وَلَكِنْ تَسْتَدْعِي قَبُولَ الْمَحِلِّ، وَقُوَّةَ هِمَّةِ
الْفَاعِلِ وَتَأْثِيرَهُ، فَمَتَى تَخَلَّفَ الشِّفَاءُ كَانَ لِضَعْفِ تَأْثِيرِ
الْفَاعِلِ، أَوْ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمُنْفَعِلِ، أَوْ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ فِيهِ
يَمْنَعُ أَنْ يَنْجَعَ فِيهِ الدَّوَاءُ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الأَْدْوِيَةِ
وَالأَْدْوَاءِ الْحِسِّيَّةِ، فَإِنَّ عَدَمَ تَأْثِيرِهَا قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ
قَبُولِ الطَّبِيعَةِ لِذَلِكَ الدَّوَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ
يَمْنَعُ مِنَ اقْتِضَائِهِ أَثَرَهُ.
فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ إِذَا
أَخَذَتِ الدَّوَاءَ بِقَبُولٍ تَامٍّ كَانَ انْتِفَاعُ الْبَدَنِ بِهِ بِحَسْبِ
ذَلِكَ الْقَبُولِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا أَخَذَ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذَ
بِقَبُولٍ تَامٍّ، وَكَانَ لِلرَّاقِي نَفْسٌ فَعَّالَةٌ وَهِمَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ
فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ.
****
الشرح
قوله: «وَمَكَثْتُ بِمَكَّةَ مُدَّةً يَعْتَرِينِي
أَدْوَاءٌ» هذا ابن القَيِّم يحكي عن نفسه.
وقوله: «وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَبْرَأُ سَرِيعًا»
فيه أن هُناك عِلاجًا مُيسَّرًا، وهو العِلاج بالقُرآن، لكن يَحتاج إلى إيمانٍ
وتَصديق بالقُرآن، وأنه شِفاء، وليس مَعناه أن الإنسانَ لا يَذْهَب إلى الأطباءِ
والمُستشفيات، فهذا مُباحٌ، لكن يُوجد ما هو أقربُ منه وأَسهل وهو الرُّقْيَة، فلو
أن المُسلم استعملَ الرُّقْيَة عن إيمانٍ وتصديقٍ، وتوكَّل على اللهِ؛ لخَفَّ عنه
كثيرٌ من الأمراضِ، وشُفِي بإذنِ اللهِ من كثيرٍ منها، وما احتاجَ إلى الأطباءِ
والمُستشفيات، ولكن هذا يَحتاج إلى إيمانٍ وحُضور قَلبٍ.