وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ
إِلَى آخِرِهِ صَرِيحٌ فِي تُرَتُّبِ الْجَزَاءِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ
وَالأَْحْكَامِ الْكَوْنِيَّةِ وَالأَْمْرِيَّةِ عَلَى الأَْسْبَابِ، بَلْ
تَرْتِيبِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَمَصَالِحِهِمَا وَمَفَاسِدِهِمَا
عَلَى الأَْسْبَابِ وَالأَْعْمَالِ.
وَمَنْ تَفَقَّهَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَتَأَمَّلَهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ انْتَفَعَ بِهَا غَايَةَ
النَّفْعِ، وَلَمْ يَتَّكِلْ عَلَى على الْقَدَرِ جَهْلاً مِنْهُ، وَعَجْزًا
وَتَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً، فَيَكُونُ تَوَكُّلُهُ عَجْزًا، وَعَجْزُهُ تَوَكُّلاً،
بَلِ الْفَقِيهُ كُلَّ الْفِقْهِ الَّذِي يَرُدُّ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ،
وَيَدْفَعُ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ، وَيُعَارِضُ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ، بَلْ لاَ
يُمْكِنُ لِإِنْسَانٍ أَنْ يَعِيشَ إِلاَّ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ
وَالْبَرْدَ وَأَنْوَاعَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَحَاذِيرِ هِيَ مِنَ الْقَدَرِ،
وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ سَاعُونَ فِي دَفْعِ هَذَا الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ.
وَهَكَذَا مَنْ وَفَّقَهُ
اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ يَدْفَعُ قَدَرَ الْعُقُوبَةِ الأُْخْرَوِيَّةِ
بِقَدَرِ التَّوْبَةِ وَالإِْيمَانِ وَالأَْعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَهَذَا وِزَانُ
الْقَدَرِ الْمُخَوِّفِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يُضَادُّهُ سَوَاءٌ، فَرَبُّ
الدَّارَيْنِ وَاحِدٌ وَحِكْمَتُهُ وَاحِدَةٌ لاَ يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا،
وَلاَ يُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ
أَشْرَفِ الْمَسَائِلِ لِمَنْ عَرَفَ قَدْرَهَا، وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا،
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
لَكِنْ يَبْقَى عَلَيْهِ
أَمْرَانِ بِهِمَا تَتِمُّ سَعَادَتُهُ وَفَلاَحُهُ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْرِفَ تَفَاصِيلَ
أَسْبَابِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَيَكُونَ لَهُ بَصِيرَةٌ فِي ذَلِكَ بِمَا
يُشَاهِدُهُ فِي الْعَالَمِ، وَمَا جَرَّبَهُ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَمَا
سَمِعَهُ مِنْ أَخْبَارِ الأُْمَمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
وَمِنْ أَنْفَعِ مَا فِي ذَلِكَ تُدَبُّرُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَفِيلٌ بِذَلِكَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَفِيهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا مُفَصَّلَةً مُبَيَّنَةً، ثُمَّ السُّنَّةِ، فَإِنَّهَا شَقِيقَةُ الْقُرْآنِ، وَهِيَ الْوَحْيُ الثَّانِي، وَمَنْ صَرَفَ إِلَيْهِمَا عِنَايَتَهُ اكْتَفَى بِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا، وَهُمَا يُرِيَانِكَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَأَسْبَابَهُمَا، حَتَّى كَأَنَّكَ تُعَايِنُ ذَلِكَ عِيَانًا.