فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَجْتَمِعُ التَّصْدِيقُ
الْجَازِمُ الَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ بِالْمَعَادِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ
وَيَتَخَلَّفُ الْعَمَلُ؟ وَهَلْ فِي الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يَعْلَمَ
الْعَبْدُ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ غَدًا إِلَى بَيْنِ يَدَيْ بَعْضِ الْمُلُوكِلِيُعَاقِبَهُ
أَشَدَّ عُقُوبَةٍ، أَوْ يُكْرِمَهُ أَتَمَّ كَرَامَةٍ، وَيَبِيتُ سَاهِيًا
غَافِلاً، لاَ يَتَذَكَّرُ مَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، وَلاَ يَسْتَعِدُّ
لَهُ، وَلاَ يَأْخُذُ لَهُ أُهْبَتَهُ؟
قِيلَ: هَذَا - لَعَمْرُ
اللَّهِ - سُؤَالٌ صَحِيحٌ وَارِدٌ عَلَى أَكْثَرِ هَذَا الْخَلْقِ، فَاجْتِمَاعُ
هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ مِنْ أَعْجَبِ الأَْشْيَاءِ.
وَهَذَا التَّخَلُّفُ لَهُ
عِدَّةُ أَسْبَابٍ:
أَحَدُهَا: ضَعْفُ
الْعِلْمِ، وَنُقْصَانُ الْيَقِينِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعِلْمَ لاَ
يَتَفَاوَتُ، فَقَوْلُهُ مِنْ أَفْسَدِ الأَْقْوَالِ وَأَبْطَلِهَا.
وَقَدْ سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ
الْخَلِيلُ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى عِيَانًا بَعْدَ عِلْمِهِ
بِقُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِيَزْدَادَ طُمَأْنِينَةً، وَيَصِيرَ
الْمَعْلُومُ غَيْبًا شَهَادَةً.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي
مُسْنَدِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْخَبَرُ
كَالْمُعَايَنَةِ» ([1]).
فَإِذَا اجْتَمَعَ إِلَى ضَعْفِ الْعِلْمِ عَدَمُ اسْتِحْضَارِهِ، وْغَيْبَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ أَوْ أَكْثَرِهَا؛ لاِشْتِغَالِهِ بِمَا يُضَادُّهُ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ تَقَاضِي الطَّبْعِ، وَغَلَبَاتُ الْهَوَى، وَاسْتِيلاَءُ الشَّهْوَةِ، وَتَسْوِيلُ النَّفْسِ، وَغُرُورُ الشَّيْطَانِ، وَاسْتِبْطَاءُ الْوَعْدِ، وَطُولُ الأَْمَلِ، وَرَقْدَةُ الْغَفْلَةِ، وَحُبُّ الْعَاجِلَةِ، وَرُخَصُ التَّأْوِيلِ وَإِلْفُ الْعَوَائِدِ، فَهُنَاكَ لاَ يُمْسِكُ الإِْيمَانَ إِلاَّ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ أَنْ تَزُولاَ.
([1])أخرجه: أحمد رقم (1842)، وابن حبان رقم (6213)، والحاكم رقم (3250).