وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الذُّنُوبِ
وَالْمَعَاصِي إِلاَّ أَنَّهَا تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا ضِدَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ،
وَتَمْنَعُهُ مِنَ الاِتِّصَافِ بِهَا، لَكَفَى بِهَا عُقُوبَةً، فَإِنَّ
الْخَطْرَةَ تَنْقَلِبُ وَسْوَسَةً، وَالْوَسْوَسَةُ تَصِيرُ إِرَادَةً،
وَالإِْرَادَةُ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً، ثُمَّ تَصِيرُ فِعْلاً، ثُمَّ
تَصِيرُ صِفَةً لاَزِمَةً وَهَيْئَةً ثَابِتَةً رَاسِخَةً، وَحِينَئِذٍ
يَتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ مِنْهُا كَمَا يَتَعَذَّرُ عليه الْخُرُوجُ مِنْ صِفَاتِهِ
الْقَائِمَةِ بِهِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ
كُلَّمَا اشْتَدَّتْ مُلاَبَسَتُهُ لِلذُّنُوبِ أَخْرَجَتْ مِنْ قَلْبِهِ
الْغَيْرَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ، وَقَدْ تَضْعُفُ فِي
الْقَلْبِ جِدًّا حَتَّى لاَ يَسْتَقْبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَبِيحَ لاَ مِنْ
نَفْسِهِ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ دَخَلَ
فِي بَابِ الْهَلاَكِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلاَءِ لاَ
يَقْتَصِرُ عَلَى عَدَمِ الاِسْتِقْبَاحِ، بَلْ يُحَسِّنُ الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ
لِغَيْرِهِ، وَيُزَيِّنُهُ لَهُ، وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ،
وَيَسْعَى لَهُ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الدَّيُّوثُ أَخْبَثَ خَلْقِ
اللَّهِ، وَالْجَنَّةُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مُحَلِّلُ الظُّلْمِ
وَالْبَغْيِ لِغَيْرِهِ وَمُزَيِّنُهُ لَهُ، فَانْظُرْ مَا الَّذِي حَمَلَتْ
عَلَيْهِ قِلَّةُ الْغَيْرَةِ.
وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى
أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ الْغَيْرَةُ، وَمَنْ لاَ غَيْرَةَ لَهُ لاَ دِينَ لَهُ،
فَالْغَيْرَةُ تَحْمِي الْقَلْبَ فَتَحْمِي لَهُ الْجَوَارِحَ، فَتَدْفَعُ السُّوءَ
وَالْفَوَاحِشَ، وَعَدَمُ الْغَيْرَةِ تُمِيتُ الْقَلْبَ، فَتَمُوتُ لَهُ
الْجَوَارِحُ؛ فَلاَ يَبْقَى عِنْدَهَا دَفْعٌ الْبَتَّةَ.
وَمَثَلُ الْغَيْرَةِ فِي
الْقَلْبِ مَثَلُ الْقُوَّةِ الَّتِي تَدْفَعُ الْمَرَضَ وَتُقَاوِمُهُ، فَإِذَا
ذَهَبَتِ الْقُوَّةُ وَجَدَ الدَّاءُ الْمَحِلَّ قَابِلاً، وَلَمْ يَجِدْ
دَافِعًا، فَتَمَكَّنَ، فَكَانَ الْهَلاَكُ. وَمِثْلُهَا مِثْلُ صَيَاصِيِّ
الْجَامُوسِ الَّتِي تَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، فَإِذَا
تَكَسَّرَتْ طَمِعَ فِيهَا عَدُوُّهُ.
****
الشرح
المقصودُ من الكَلام الذِي
مرَّ كُله وخُلاصته: أن الغيرةَ إذا فُقِدت من القلبِ صارَ صاحبُ هذا القلبِ لا
يُنكِر مُنكرًا ولا يَعرفُ معروفًا،