وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا
الْمَوْضِعَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أَكْثَرَ هَذَا الْخَلْقِ قَدْ نَسُوا حَقِيقَةَ
أَنْفُسِهِمْ وَضَيَّعُوهَا وَأَضَاعُوا حَظَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَبَاعُوهَا
رَخِيصَةً بِثَمَنٍ بَخْسٍ بَيْعَ الْغَبْنِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ لَهُمْ هَذَا عِنْدَ
الْمَوْتِ، وَيَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ يَوْمَ التَّغَابُنِ، يَوْمَ يَظْهَرُ
لِلْعَبْدِ أَنَّهُ غُبِنَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ لِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ
الدَّارِ، وَالتِّجَارَةِ الَّتِي اتَّجَرَ فِيهَا لِمَعَادِهِ، فَإِنَّ كُلَّ
أَحَدٍ يَتَّجِرُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لآِخِرَتِهِ.
فَالْخَاسِرُونَ الَّذِينَ
يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّبْحِ وَالْكَسْبِ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَحَظَّهُمْ فِيهَا وَلَذَّاتِهِمْ، بِالآْخِرَةِ وَحَظِّهِمْ فِيهَا،
فَأَذْهَبُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَاسْتَمْتَعُوا بِهَا،
وَرَضُوا بِهَا، وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا، وَكَانَ سَعْيُهُمْ لِتَحْصِيلِهَا،
فَبَاعُوا وَاشْتَرَوْا وَاتَّجَرُوا وَبَاعُوا آجِلاً بِعَاجِلٍ، وَنَسِيئَةً
بِنَقْدٍ، وَغَائِبًا بِنَاجِزٍ، وَقَالُوا: هَذَا هُوَ الْحَزْمُ، وَيَقُولُ
أَحَدُهُمْ: خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ.
فَكَيْفَ أَبِيعُ حَاضِرًا
نَقْدًا مُشَاهَدًا فِي هَذِهِ الدَّارِ بِغَائِبٍ نَسِيئَةً فِي دَارٍ أُخْرَى
غَيْرِ هَذِهِ؟! وَيَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ ضَعْفُ الإِْيمَانِ وَقُوَّةُ دَاعِي
الشَّهْوَةِ، وَمَحَبَّةُ الْعَاجِلَةِ وَالتَّشَبُّهُ بِبَنِي الْجِنْسِ.
فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ فِي
هَذِهِ التِّجَارَةِ الْخَاسِرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ سبحانه فِي أَهْلِهَا: {أُوْلَٰٓئِكَ
ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۖ فَلَا يُخَفَّفُ
عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 86] ، وَقَالَ فِيهِمْ: {فَمَا
رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} [الْبَقَرَةِ: 16] ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّغَابُنِ
ظَهَرَ لَهُمُ الْغَبْنُ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ، فَتَتَقَطَّعُ عَلَيْهِمُ
النُّفُوسُ حَسَرَاتٍ.
وَأَمَّا الرَّابِحُونَ فَإِنَّهُمْ بَاعُوا فَانِيًا بِبَاقٍ، وَخَسِيسًا بِنَفِيسٍ، وَحَقِيرًا بِعَظِيمٍ، وَقَالُوا: مَا مِقْدَارُ هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، حَتَّى نَبِيعَ حَظَّنَا مِنَ اللَّهِ