وَلاَ تَظُنَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ
لَفِي نَعِيمٖ ١٣وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤} [الاِنْفِطَارِ: 13- 14] مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ الْمَعَادِ
فَقَطْ، بَلْ هَؤُلاَءِ فِي نَعِيمٍ فِي دُورِهِمُ الثَّلاَثَةِ، وَهَؤُلاَءِ فِي
جَحِيمٍ فِي دُورِهِمُ الثَّلاَثَةِ، وَأَيُّ لَذَّةٍ وَنَعِيمٍ فِي الدُّنْيَا
أَطْيَبُ مِنْ بِرِّ الْقَلْبِ، وَسَلاَمَةِ الصَّدْرِ، وَمَعْرِفَةِ الرَّبِّ
تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ، وَالْعَمَلِ عَلَى مُوَافَقَتِهِ؟ وَهَلِ الْعَيْشُ فِي
الْحَقِيقَةِ إِلاَّ عَيْشُ الْقَلْبِ السَّلِيمِ؟
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ
سبحانه وتعالى عَلَى خَلِيلِهِ عليه السلام بِسَلاَمَةِ قَلْبِهِ، فَقَالَ: {۞وَإِنَّ مِن
شِيعَتِهِۦ لَإِبۡرَٰهِيمَ ٨٣إِذۡ جَآءَ رَبَّهُۥ بِقَلۡبٖ سَلِيمٍ ٨٤} [الصَّافَّاتِ:
83- 84] . وَقَالَ حَاكِيًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا
بَنُونَ ٨٨إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ ٨٩} [الشُّعَرَاءِ: 88- 89] .
وَالْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ
الَّذِي سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالشُّحِّ
وَالْكِبْرِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَالرِّيَاسَةِ، فَسَلِمَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ
تُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ تُعَارِضُ خَبَرَهُ،
وَمِنْكُلِّ شَهْوَةٍ تُعَارِضُ أَمْرَهُ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ
تُزَاحِمُ مُرَادَهُ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ قَاطِعٍ يَقْطَعُ عَنِ اللَّهِ، فَهَذَا
الْقَلْبُ السَّلِيمُ فِي جَنَّةٍ مُعَجَّلَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَفِي جَنَّةٍ فِي
الْبَرْزَخِ، وَفِي جَنَّةِ يَوْمِ الْمَعَادِ.
وَلاَ تَتِمُّ لَهُ سَلاَمَتُهُ
مُطْلَقًا حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنْ شِرْكٍ يُنَاقِضُ
التَّوْحِيدَ، وَبِدْعَةٍ تُخَالِفُ السُّنَّةَ، وَشَهْوَةٍ تُخَالِفُ الأَْمْرَ،
وَغَفْلَةٍ تُنَاقِضُ الذِّكْرَ، وَهَوًى يُنَاقِضُ التَّجْرِيدَ وَالإِْخْلاَصَ.
وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ حُجُبٌ عَنِ اللَّهِ، وَتَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا
أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، تَتَضَمَّنُ أَفْرَادًا لاَ تَنْحَصِرُ.
وَلِذَلِكَ اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْعَبْدِ بَلْ ضَرُورَتُهُ، إِلَى أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحْوَجَ مِنْهُ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ،