وَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لَهُ مِنْهَا. فَإِنَّ
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يَتَضَمَّنُ: عُلُومًا، وَإِرَادَةً، وَأَعْمَالاً،
وَتُرُوكًا ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً تَجْرِي عَلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَتَفَاصِيلُ
الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ قَدْ يَعْلَمُهَا الْعَبْدُ وَقَدْ لاَ يَعْلَمُهَا،
وَقَدْ يَكُونُ مَا لاَ يَعْلَمُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْلَمُهُ، وَمَا يَعْلَمُهُ
قَدْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ
الْمُسْتَقِيمُ وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ، وَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ قَدْ تُرِيدُهُ
نَفْسُهُ وَقَدْ لاَ تُرِيدُهُ كَسَلاً وَتَهَاوُنًا، أَوْ لِقِيَامِ مَانِعٍ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا تُرِيدُهُ قَدْ يَفْعَلُهُ وَقَدْ لاَ يَفْعَلُهُ، وَمَا
يَفْعَلُهُ قَدْ يَقُومُ فِيهِ بِشُرُوطِ الإِْخْلاَصِ وَقَدْ لاَ يَقُومُ، وَمَا
يَقُومُ فِيهِ بِشُرُوطِ الإِْخْلاَصِ قَدْ يَقُومُ فِيهِ بِكَمَالِ
الْمُتَابَعَةِ وَقَدْ لاَ يَقُومُ، وَمَا يَقُومُ فِيهِ بِالْمُتَابَعَةِ قَدْ
يَثْبُتُ عَلَيْهِ وَقَدْ يُصْرَفُ قَلْبُهُ عَنْهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ وَاقِعٌ
سَارٍ فِي الْخَلْقِ، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ.
وَلَيْسَ فِي طِبَاعِ
الْعَبْدِ الْهِدَايَةُ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ مَتَى وُكِلَ إِلَى طِبَاعِهِ حِيلَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهَذَا هُوَ الإِْرْكَاسُ الَّذِي أَرْكَسَ
اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ بِذُنُوبِهِمْ، فَأَعَادَهُمْ إِلَى طِبَاعِهِمْ
وَمَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ.
****
الشرح
قولُه: «ولا تظنَّ أَنَّ قولَه تعالى: { إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤} مختصٌّ بيومِ المِعَادِ فَقَطْ»، يعني: ما تظنَّ أَنَّ هذا في الآخرةِ فقطْ، بل الأَبْرارُ في نعيمٍ في الدُّنْيَا وفي البَرْزَخِ وفي الآخرةِ، وكذلك الفُجَّارُ في جحيمٍ في الدُّنْيَا وفي البَرْزَخِ وفي الآخرةِ؛ لأَنَّ الدُّوْرَ ثلاثةٌ: دارُ الدُّنْيَا، ودارُ القبرِ، والدَّارُ الآخرةُ. فإِذا صَلُحَ العبدُ في الدُّنْيَا أَصْلَحَ اللهُ له البَرْزَخَ والدَّارَ الآخرةَ، ولهذا يقولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشَ الآخِرَةِ» ([1]).
([1])أخرجه: البخاري رقم (2961)، ومسلم رقم (1804).