وقوله: «وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْعَمَى
وَالصَّمَمَ وَالْبَكَمَ لِلْقَلْبِ بِالذَّاتِ والْحَقِيقَةُ، وَلِلْجَوَارِحِ
بِالْعَرَضِ وَالتَّبَعِيَّةِ» إذا عَمِي القلبُ عَمِيَتِ الْجوارحُ؛ لأن
الجَوارح تابعةٌ للقَلب، وهو الأصلُ الذِي يحرِّكها. قالَ تَعالى: {أَفَلَمۡ
يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ
ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن
تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ} [الحج: 46] ، يَمرُّون على مَواطن الكَفَرة - كدِيار
ثَمود وغَيرهم - ولا يَتَّعظون بما حَلَّ بهم.
وأغلبُ الناسِ لا يَذهبون
إليهَا إلا مِن بَاب التَّعظيم والافتخارِ بها، ويَقولون: هَذه حَضارة ورُقِي
عِندهم، ولا يَقولون: هَؤلاء كُفار، وأن اللهَ أخلَى مساكنَهم عُقوبة لهم: {فَتِلۡكَ
بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ} [النمل: 52] ، {فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ
تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ } [القصص: 58] . لا يَعتبرون هذا الاعتبارَ، وإنما
يَنظرون إليها نظرةَ تعظيمٍ، وأنها حضارةٌ ورُقِي.
وقوله: «وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْعَمَى
الْحِسِّيِّ عَنِ الْبَصَرِ»، فقد يكونُ بصرُه قويًّا يَرى الهِلال، لكِن
قَلبه ليسَ فيه بَصيرةٌ: { فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ
وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ }، فعمَى البصرِ يحصُل للمُؤمنِ والكافرِ، والتَّقِيّ
والفاجِر، أما عمَى البَصيرة فهَذا لا يحصُل إلا للأشقياءِ والعِياذُ باللهِ.
ولذلكَ أسقطَ اللهُ عز وجل الجِهاد عَن الأعمَى: {لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ}؛ لأنه لا يُبصِر، فليسَ عليه حَرَج ألاَّ يخرجَ إلى الغَزو، وكذلكَ الأعرَج والمَريض: { وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ}، لِما فِيهم من الآفاتِ البَدَنِيّة التي تَمنعهم مِن الخُروج إلى الجِهاد، فليسَ عليهم حَرَج.