وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ دُونَ
الأَْوَّلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ تَابِعَةٌ لِلْجَرَاءَةِ
وَالتَّوَثُّبِ.
قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى
هَذَا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَتَضَمَّنُ الاِسْتِهَانَةَ بِأَمْرِ الْمُطَاعِ
وَنَهْيِهِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ، وَهَذَا لاَ فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ ذَنْبٍ
وَذَنْبٍ.
قَالُوا: فَلاَ يَنْظُرُ
الْعَبْدُ إِلَى كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ
إِلَى قَدْرِ مَنْ عَصَاهُ وَعَظَمَتِهِ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ
بِالْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا لاَ يَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَالُ بَيْنَ مَعْصِيَةٍ
وَمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ مَلِكًا مُطَاعًا عَظِيمًا لَوْ أَمَرَ أَحَدَ
مَمْلُوكَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ فِي مُهِمٍّ لَهُ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَأَمَرَ
آخَرَ أَنْ يَذْهَبَ فِي شُغُلٍ لَهُ إِلَى جَانِبِ الدَّارِ، فَعَصَيَاهُ
وَخَالَفَا أَمْرَهُ، لَكَانَا فِي مَقْتِهِ وَالسُّقُوطِ مِنْ عَيْنِهِ سَوَاءً.
قَالُوا: وَلِهَذَا كَانَتْ
مَعْصِيَةُ مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ مِنْ مَكَّةَ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَهُوَ جَارُ
الْمَسْجِدِ، أَقْبَحَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مَعْصِيَةِ مَنْ تَرَكَ مِنَ
الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى
هَذَا، وَلَوْ كَانَ مَعَ رَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَمَنَعَ زَكَاتَهَا، وَمَعَ
آخَرَ مِائَتَا أَلْفِ دِرْهَمٍ فَمَنَعَ مِنْ زَكَاتِهَا؛ لاَسْتَوَيَا فِي
مَنْعِ مَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلاَ يَبْعُدُ اسْتِوَاؤُهُمَا
فِي الْعُقُوبَةِ، إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُصِرًّا عَلَى مَنْعِ زَكَاةِ
مَالِهِ، قَلِيلاً كَانَ الْمَالُ أَوْ كَثِيرًا.
****
الشرح
قولُه: «واخْتَلَفَ النَّاسُ في الكبائِرِ: هل لها عددٌ يَحْصُرُهَا؟» الكبائِرُ لها ضوابطُ معروفةٌ، أَمَّا أَنَّها تُعَدُّ وتُحْصَى أَوْ لا تُحْصَى؟ فهي كثيرةٌ، لكنْ إِذَا عرفتَ الضَّوابطَ حَصَلَ المقصودَ، وإِلاَّ فقَدْ جاءَ أَنَّها سبعٌ، وجاءَ أَنَّها سبعون، وجاءَ أَنَّها سبعُمائَةٍ، وقيل: إِنَّها لا يَحْصُرُها عَدَدٌ.