وَالدُّخانُ ضَارٌّ
لِلبَدَنِ قَطْعًا ثُمَّ لَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّأْثِيرِ عَلَى العَقْلِ. أَما
أَنَّهُ ضَارٌّ فَقَدْ فَرَغَ مِنْهُ الحُكَمَاءُ.
وَأَنَا أَحْكِي لِلقَارِئِ مَا كَانَ لِي مِنْهُ
وَهُوَ الحُكْمُ بَعْدَ ذَلِكَ: كُنْتُ أَمْشِي يَوْمًا مَعَ أَحَدِ طَلَبَةِ
العِلمِ، فَعَرَّجَ عَلَى بَائِعِ دُخانٍ اشْتَرَى مِنْهُ سِيجَارَتَيْنِ،
أَشْعَلَ إِحْدَاهُمَا، وَأَقْسَمَ عَلَيَّ يَمِينًا غَلِيظًا أَنْ آخَذَهَا
مِنْهُ وَأَسْتَعْمِلَهَا، حلفَ ذَلِكَ اليَمِين لَمَّا امْتَنَعْتُ أَوَّلاً عَنْ
أَخْذِهَا وَإِفْهَامِهِ أَنِّي لَمْ أَتَعَاطَ الدُّخانَ فِي حَيَاتِي فَرَحْمَةً
بِهِ، وَبِحرمِهِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا اليَمِينُ تَنَاوَلْتُ السِّيجَارَةَ،
وَأَخَذْتُ أَجْذِبُ فِي دُخانِهَا وَأَنْفُخُهُ مِنْ فَمِي دُونَ أَنْ
يَتَجَاوَزَ الفَمَ لِلدَّاخِلِ رَأَى هُوَ ذَلِكَ فَقَالَ: ابْتَلِعْ مَا
تَجْذِبُهُ فَإِنَّ قَسَمِي عَلَى هَذَا. لَمْ أُمَانِعْ وَفَعَلْتُ مَا قَالَ
نَفَسًا وَاحِدًا، وَاللَّهِ، مَا زِدْتُ عَلَيْهِ وَإِذْ دَارَتِ الأَرْضُ
حَوْلِي دَوْرَةً تُشْبِهُ دَوْرَةَ المِغْزَلِ فَبَادَرْتُ إِلَى الجُلُوسِ عَلَى
الأَرْضِ وَظَنَنْتُ بِنَفْسِي أَنِّي انْتَهَيْتُ وَظَنَنْتُ بِصَاحِبِي
الظُّنُون، وَبِكُلِّ تَعَبٍ وَصَلْتُ إِلَى بَيْتِي وَأَنَا رَاكِبٌ وَهُوَ مَعِي
يُحَافِظُ عَلَيَّ، وَبَعْدَ ذَلِكَ مَكَثْتُ إِلَى آخَرِ اليَوْمِ التَّالِي
تَقْرِيبًا حَتَّى أَحْسَسْتُ بِخِفَّةٍ مَا كُنْتُ أَجِدُهُ. فَحَكِيتُ هَذَا
لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَسْتَكْشِفُ مَا كَانَ مَخْبُوءًا لِي فِي السِّيجَارَةِ
فَأَخْبَرُونِي أَنَّ الدُّخانَ يَعْمَلُ هَذَا العَمَلَ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ
يَعْتَدْهُ. فَقُلتُ: إِذَا كَانَ نَفَسٌ وَاحِدٌ فَعَلَ بِي كُلَّ هَذَا فَمَاذَا
تَفْعَلُهُ الأَنْفَاسُ الَّتِي لاَ تُعَدُّ كُلَّ يَوْمٍ يَجْتَذِبُهَا عَلَى
كُلِّ بَدَنٍ؟ يُرَاجَعُ الطِّبُّ فِي ذَلِكَ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَالُوا
فِيهِ مَا قَالُوا مِنَ المَضَارِّ وَكَانَ لِبَعْضِهِمْ فِيهِ تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ
حَتَّى كَانَ لاَ يُدَاوِي مَنْ لَمْ يَتْرُكْهُ. أَمَا إِنَّ لَهُ تَأْثِيرًا
عَلَى العَقْلِ فَيَدُلُّكَ عَلَيْهِ أَنَّ شَارِبَهُ إِذَا نَزَلَ بِهِ مُكَدَّرٌ
يفْزَعُ إِلَى شُرْبِهِ، وَيُكْثِرُ مِنْهُ فَيَتَسَلَّى، وَيُخَفِّف مِنْهُ مَا
كَانَ مِنْ أَلَمِ الحُزْنِ، وَلَوْلاَ أَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ
التَّغْطِيَةِ عَلَى العَقْلِ مَا حَصَلَ التَّسَلِّي الَّذِي يُشْعِرُ بِأَنَّ
السَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ