قلت: ما أباحَهُ
إبراهيمُ بنُ سعدٍ وعبيدُ اللَّهِ العنبريُّ من الغناءِ ليسَ هو كالغناءِ المعهودِ
اليومَ والمثيرُ للنُّفوسِ، والباعثُ على الشَّوقِ والغرامِ من وصفِ الخدِّ
والعينينِ ورشاقةِ الشَّفتينِ. تقعدُ المغنِّيةُ أو المغني أمامَ المذياعِ
فيؤدِّيانِ غناءُهُما بصوتٍ رخيمٍ يبعثُ على الوجدِ والأنَّاتِ، يسمعُ صوتُهُما من
بُعدٍ ومن قُربٍ، فحاشا هذين المذكورين أن يبيحا مثلَ هذا الغناءِ الَّذي هوَ في
غايةِ الانحطاطِ و منتهى الرَّذالةِ.
ثمَّ قالَ
القرطبيُّ: «قالَ أبو الفرجِ: وقالَ القفالُ من أصحابِنَا: لا تقبلُ شهادةُ
المغنِّي والرَّقَّاص. قلت: وإذ قد ثبت أنَّ هذا الأمرَ لا يجوزُ فأخذُ الأجرةِ
عليهِ لا تجوزُ وقد ادَّعى أبو عمرَ بنِ عبدِ البرِّ الإجماعَ على تحريمِ الأجرةَ
على ذلكَ وقد مضى في الأنعامِ عند قولِهِ: ﴿۞وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ﴾ [الأنعام: 59]
وحَسْبُك»، انتهى كلامُ القرطبيِّ وما ذكره في سورةِ الأنعامِ هو قولُهُ (7/ 3):
«قَالَ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ في «الكَافِي»: منَ المَكَاسبِ المُجْمَعُ على
تحريمِهَا الرِّبا ومهورُ البَغَايا والسُّحْتُ والرِّشا وأخذُ الأجرةِ على
النياحةِ والغناءِ وعلى الكهانةِ وادِّعاءِ الغيبِ وأخبارِ السَّماءِ و على
الزَّمْرِ واللَّعبِ الباطلِ كلِّهِ». ا هـ.
وقالَ شيخُ الإسلامِ
ابنُ تيميةَ رحمه الله في «مَجْمُوعة الفتَاوَى» (30/ 215) في أثناءِ كلامٍ لهُ
على ما رُوِيَ عنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّه مرَّ براعٍ معه زمَّارةً
فَسَدَّ أُذُنَيْه.
قالَ: «الوجهُ السَّادسُ
أنَّه قدْ ذَكَرَ ابنُ المنذرِ اتِّفاقَ العلماءِ على المنعِ من إجارةِ الغناءِ
والنَّوحِ فقالَ: أجمعَ كلُّ من نحفظُ عنه من أهلِ العلمِ على إبطالِ النَّائِحةِ
والمُغنِّيةِ. كَرِهَ ذلكَ الشَّعبيُّ والنخعيُّ ومالكُ، وقال أبو ثورٍ والنعمانُ
ويعقوبُ ومحمَّدُ: لا تجوزُ الإجارةُ على شيءٍ من الغناءِ والنَّوح وبه نقولُ».