وقالَ ابنُ الجَوزيِّ في كتابِ «تلبيس إبليس» صفحة (217): «والظَّاهرُ من هاتين الجاريتينِ صِغَرُ السِّنُّ؛ لأنَّ عائشةَ كانت صغيرةً وكان رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يسرِّب إليها الجواري فيَلْعَبْنَ معها، ثمَّ ذكر بسنَدِهِ عن أحمدَ بن حنبل أنَّه سُئِلَ أيُّ شيءٍ هذا الغناء قال: غناء الرَّكب: أتَيْنَاكُم أتَيْنَاكُم»، ثمَّ قالَ ابنُ الجوزيُّ في صفحة (22) من الكتابِ المذكورِ: «أمَّا حديثا عائشةَ رضي الله عنها فقد سبقَ الكلامُ عليهما، وبيَّنَّا أنَّهم كانوا يُنْشِدُون الشِّعرَ، وسمِّي بذلك غناءً لنوعٍ يثبت في الإنشادِ وترجيع، ومثْل ذلك لا يُخْرِجُ الطِّباع عنِ الاعتدالِ، وكيف يحتجُّ بذلك في الزَّمان السَّليمِ عندَ قُلوب صافيةٍ، على هذه الأصواتِ المُطْربة الواقعة في زمانٍ كدرٍ عند نفوسٍ قد تملَّكَها الهوى؟ ما هذا إلاَّ مغالطةً للفَهْمِ، أو ليس قد صحَّ في الحديثِ عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّها قالت: «لَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ مِنَ الْمَسَاجِدِ» ([1]). وإنَّما ينبغي للمُفتي أن يَزِنَ الأحوالَ كما ينبغي للطَّبيب أن يَزِنَ الزَّمان والسِّنَّ والبلدَ ثمَّ يصِفَ على مقدارِ ذلك. وأين الغناء بما تقاولت به الأنصارُ يوم بعاث، من غناءِ أمرد مستحسن بالآتٍ مستطابةٍ وصناعةٍ تجذبُ إليها النَّفس، وغزليَّات يذكر فيها الغزالُ والغزالةُ والخالُ والخدُّ والقدُّ والاعتدالُ؟ فهل يثبت هناك طبعٌ؟ هيهات! بل ينزعِجُ شَوقًا إلى المستلذِّ، ولا يدَّعي أنَّه لا يجدُ ذلك إلاَّ كاذبٌ أو خارجٌ عن حدِّ الآدميَّة، إلى أن قال: وقد أجابَ أبو الطَّيِّب الطَّبريِّ عن هذا الحديثِ بجوابٍ آخرٍ؛ فأخبرنا أبو القاسمِ الجريريّ عنه أنَّه قال: هذا الحديثُ حُجَّتنا؛ لأن أبا بكرٍ سمَّى ذلك مزمور الشَّيطانِ، ولم ينكر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على أبي بكرٍ قولَهُ، إنَّما منَعَهُ من
([1])أخرجه: البخاري رقم (869)، ومسلم رقم (445).