قَالَ: فَأَوْرَدَهُمْ مَاءً، وَرِيَاضًا
خُضْرًا، فَمَكَثَ فِيهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا هَؤُلاَءِ
الرَّحِيلَ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى مَاءٍ لَيْسَ كَمَائِكُمْ،
وَإِلَى رِيَاضٍ لَيْسَتْ كَرِيَاضِكُمْ، فَقَالَ جُلُّ الْقَوْمِ -وَهُمْ
أَكْثَرُهُمْ-: وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا هَذَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَنْ
نَجِدَهُ، وَمَا نَصْنَعُ بِعَيْشٍ خَيْرٍ مِنْ هَذَا؟! وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
-وَهُمْ أَقَلُّهُمْ-: أَلَمْ تُعْطُوا هَذَا الرَّجُلَ عُهُودَكُمْ
وَمَوَاثِيقَكُمْ بِاللَّهِ لاَ تَعْصُونَهُ شَيْئًا وَقَدْ صَدَقَكُمْ فِي
أَوَّلِ حَدِيثِهِ، فَوَاللَّهِ لَيَصْدُقَنَّكُمْ فِي آخِرِهِ، قَالَ: فَرَاحَ
فِيمَنِ اتَّبَعَهُ، وَتَخَلَّفَ بَقِيَّتُهُمْ، فَنَزَلَ بِهِمْ عَدُوٌّ،
فَأَصْبَحُوا بَيْنَ أَسِيرٍ وَقَتِيلٍ»([1]).
وهذا المثل في غاية المطابقة بحال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته، فإنه أتاهم والعرب إذ ذاك أذل الناس وأقلهم وأسوؤهم عيشًا في الدنيا وحالاً في الآخرة، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة، وظهر لهم من براهين صدقه كما ظهر لنا صدق الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة، وقد نفد ماؤهم وهلك ظهرهم، وقد رأوه في حلة مترجلاً يقطر رأسه ماءً، ودلهم على الماء، والرياض المعشبة، فاستدلوا بهيئته وحاله على صدق مقاله فاتبعوه، ووعد من اتبعوه بفتح فارس والروم، وأخذ كنوزهما، وحذرهم من الاغترار بذلك والوقوف معه، وأمرهم بالتجزي من الدنيا بالبلاغ، والجد والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها، فوجدوا ما وعدهم به كله حقًا، فلما فتحت عليهم الدنيا كما وعدهم اشتغل أكثر الناس بجمعها واكتنازها والمنافسة فيها، ورضوا بالإقامة فيها والتمتع بشهواتها، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجد والاجتهاد في طلبها، وقبل قليل من الناس وصيته في الجد في طلب الآخرة،
([1]) أخرجه: الرامهرمزي في « أمثال الحديث » رقم (23).