فَصلٌ: فِي أَنْهَار الجَنَّة
****
ذَكرَ اللهُ أنهَارَ الجنَّة فِي قوله: ﴿فِيهَآ
أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ
يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّٰرِبِينَ
وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ﴾
[محمد: 15]، فَذَكر أرْبَعة أنْوَاع مِن الأنْهَار يَشرَب مِنهَا أهْل الجَنَّة،
وهي تَخْتَلف عَن أنْهار الدُّنيا مِن جَميعِ الوجُوه:
أولاً:
أنَّها تَجري مِن غَير أخَادِيد، وأنْهَار الدُّنيَا لا تَجري إلا فِي أخَادِيد،
لَو لَم تَكنْ فِي أخَادِيد لَسَاحَت، وأنْهار الجَنَّة لَيس لَها أخَادِيد وَلا
تَسيح، وَهذا مِن قُدرة اللهِ تَعَالى.
ثانيًا:
أنَّ أنْهَار الدُّنيا يَعترِيهَا النُّضوبُ والجَفافُ؛ إذَا قلَّت الأمْطَار
وَقلَّت الثُّلوج فإنَّها تنضبُ وَقد تَنقطِع، بخِلافِ أنْهارِ الجَنَّة فَهي
دَائمًا تَجْري وَلا تَنقُص كَما تَنقُص أنْهار الدُّنيا.
ثالثًا:
أنَّ اللهَ أجْرَى أنْهَار الجَنَّة بِأشْياء لَم تَجرِ العَادَة بِها فِي
الدُّنيَا، فَاللَّبنُ لا يَكونُ أنْهارًا في الدُّنيا وإنَّمَا هُو فِي ضُروعِ
الحَيواناتِ وَهُو قَليل، وأمَّا الجَنَّة فَاللَّبنُ يَجرِي فِيها فِي أنْهَار،
كَذلِكَ: العَسلُ فِي الدُّنيَا مِن النَّحلِ والمَناحِل وأمَّا في الآخِرَة فَهُو
أنْهار.
وَكذَلكَ
الأنْهارُ في الدُّنيَا يَتغيَّر مَاؤها، أمَّا مَاء أنْهارِ الجَنَّة لا يَأسَن
بِخلافِ المَاء فِي أنْهار الدُّنيا، فَإنَّ المَاء يَأسنُ، وَذلِك باخْتِلاف
رَائحَتِه إذَا حُبِسَ أو تأخَّر النَّزحُ والأَخذُ منْهُ، فإنَّه يكُونُ لَه
رائِحةٌ كرِيهَة.
وكَذلكَ
الخَمر؛ لأنَّ خَمر الدُّنيا قَبيحةٌ، وَهي أمُّ الخَبائث، وَتغتَالُ العَقلَ،
ويُصبِح شَاربُها مُخَبَّل العَقلِ، ويُصاب من يَشرَب الخَمرَ بأمْرَاض فَتَّاكَة
يَعرِفُها الأطِبَّاء، بِخلاف خَمر الآخرة، فَإنَّ اللهَ نَفَى عَنهَا كلَّ
الآفَات،
الصفحة 1 / 495